عندما أعلن المستشرق الراحل “جاك بيرك” من على شاشة التلفاز العراقي، في سبعينيات القرن الماضي، بأن السماء تمطر شعراء في النجف، راح البعض من الذين كانوا يشاهدونه يزهون بهذا العطاء الشعري العراقي الثر (كناية عن أن العراق هو موطن الشهر العربي)، ولكن في ذات الوقت راح البعض الآخر يقلب الطرف والتفكير فيما كان يقصده بيرك، لأن هذه الاستعارة مفتوحة على تفسيرين: فهي يمكن أن تعني كذلك تدني الشعر واستحالته حرفة ترتيب كلمات في سياق جلجلات يمكن أن يأتي بها حتى “نظّامو” أناشيد الأطفال.
كمنت شكوك الفريق الثاني فيما عناه بيرك، على نحو الدقة، من حقائق تاريخ الأدب ومعطيات النقد الأدبي الحق، ذلك أنك إن درست الشعر الفرنسي أو الإنجليزي في مرحلة تاريخية معينة لا تجد من الشعراء البارزين الحق، أي الذين يدرس شعرهم كفن (بمعنى فنًّا، وليس كفنًا) لا يمكن أن يزيد عددهم أكثر من بضعة شعراء، بدليل أن العصر الرومانسي في الأدب الإنجليزي لم يقدم أكثر من سبعة شعراء برمته. أما أن يكون الشعراء بالعشرات والمئات بل وبالآلاف، فإن في الأمر ما يستحق الرصد والتحقق للتأكد من أن المطروح في الآنية المنشورة شعرًا وليس شعيرًا.
أما بالنسبة لميل الذائقة العربية القديم للفنون اللفظية، فإنه قد أتاح لكل من لا مهنة له ولا صنعة يتقنها الادعاء بأنه شاعر. وهو مبرر بذلك بسبب طبيعة الثقافة العربية اللفظية في جلها، ثقافة اعتمدت استجابات الـ”أحسنت” والـ”أعد”، من بين سواها من ألفاظ الاستحسان والطرب، والضحك على الذقون في أحيان كثيرة. وكما قيل بأنك إن لم تنتمِ لعشيرة، فقل بأنك من العشيرة الأكثر عددًا: لأنك ستضيع نفسك رقمًا ووجهًا بين الوجوه في زحمة الحياة بين المقاهي والمتسكعين بين الشوارع وعلى الأرصفة، كما فعل الصعاليك. لست أدري كم لدينا من “الصعاليك” اليوم في العالم العربي!
للمرء أن يلاحظ هذا وهو يراجع القوائم التي تجهزنا بها اتحادات الأدباء والكتاب في الدول العربية بأسماء “الشعراء”، فحولًا وغير فحول؛ إناثًا ومستفحلات! والحق، فإن للمرء أن يلاحظ عدد الحسان اللائي ركبن مركب الشعر فجأة، بعد عقود لم يعرف عنهن قراءة صفحة أو كتابة سطر واحد. إلا أنهن يتصدرن المجالس على حين غرة (خاصة في المهاجر والمنافي الغربية) شواعر شغلن الدنيا بين جمال الطلعة واستدارات الجسد المغرية ليعززن رشاقتهن ببضعة كلمات مصطنعة ومرتبة وبمساعدة “أصدقاء” يهمهم مستقبلهن “على الساحة الثقافية” كي يطرحن أنفسهن شاعرات يفقن الخنساء ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة رؤيوية ورقة.
وهكذا غدا الشعر حرفة البطالين والعاطلين الذين يبقى وجودهم والتصفيق لمعانيهم ومقاصدهم “الرمزية” إهانات ضمنية للشريف الرضي وللجواهري وللسموأل الذي لم تجد شاعريته بسوى قصيدة واحدة رغم شيخوخته، فعده مؤرخو الأدب من “أصحاب الواحدة”.
مقالات ذات صلة
رأي الوطن: أرقام تؤكد استراتيجية موانئ السلطنة
23 يناير,2021
في العمق: مجلس عمان وتعاظم المسؤوليات
23 يناير,2021
بالقدرات الموهوبة والخطط المدروسة تتحقق الأحلام الطموحة
23 يناير,2021
الانتخابات في فلسطين.. والشتات
23 يناير,2021
زوايا خفية: معلمتي…لكِ كل الود والتقدير
23 يناير,2021
الأكثر قراءة
- نبض طبيب: بين الأخطاء الطبية والمضاعفات
- تشير خرائط الأحوال الجوية إلى وجود أجواء مغبرة بوجه عام على معظم محافظات السلطنة
- هفوة عامل.. تتلف ألفي جرعة من لقاح “مودرنا”
- جلالة السلطان يبعث رسالة خطية للرئيس الفلسطيني
- ولد بن غبيشه يكتب عن “آثار وأسرار صحراء الربع الخالي”
- أمير قطر يستقبل وزير الداخلية
- تدشين مكتبة “كأس اقرأ” بقريات
- “التصوير الضوئي” تقيم معرضين للحاصلين على أوسمة الفياب والأعضاء الجدد
- 40 مليون جرعة من «فايزر» لـ«كوفاكس».. والمدة بين جرعتي التطعيم قد تمتد لـ6 أسابيع
- في العمق: مجلس عمان وتعاظم المسؤوليات