من يتابع التصريحات الأميركية حول أحداث المنطقة يجد أنها متطابقة مع المثل القائل “أسمع كلامك يعجبني أرى أفعالك تحيرني”، فحين تقول الولايات المتحدة إنها “ضد أي تغيير ديموغرافي دائم في المنطقة وتحديدًا في (سوريا)، وإنها ترغب في عودة اللاجئين إلى ديارهم في أسرع وقت ممكن”، نافيةً أي دور لقصف الطائرات الأميركية في تهجير السكان المدنيين من مدينة تل أبيض السورية، وإن طائراتها تستهدف تنظيم “داعش” وليس المناطق المدنية، فإنه ـ بلا شك ـ كلام جميل يدغدغ العواطف العربية وبخاصة تلك المتخندقة في خندق معسكر التآمر والعدوان على سوريا، إلا أن الكلام الأقرب إلى الثرثرة الإعلامية شيء، والواقع شيء آخر.
إن الواقع السوري ومعه العراقي بوجه خاص ليس بحاجة إلى إعمال جهد من التفكير والذكاء لمعرفة خريطة أحداثه، والمسارات المرسومة للتنظيمات الإرهابية، والأهداف الموضوعة والرهان عليها وعلى مكونات في المجتمع السوري والعراقي ونعني به تحديدًا الأكراد إلى جانب تلك التنظيمات الإرهابية المسلحة في إنجاز المشروع الصهيو ـ أميركي في المنطقة وضعضعة دولها وضرب عصب أمنها واستقرارها من قوات الجيش والشرطة والأمن وبنية تحتية عسكرية وأمنية واقتصادية واجتماعية، بل إن كل مفردات الواقع وكل خطواته تؤكد التصميم والإصرار لدى معسكر التآمر والتدمير والتخريب والتقسيم بالقيادة الصهيو ـ أميركية على مواصلة السير حتى النهاية، ليس فقط باستنزاف إمكانات الدولة السورية والدول العراقية وقتل عصبهما الحيوي بذريعة مواجهة “داعش” الإرهابي، وإنما بتغيير الشكل الديموغرافي الحالي القائم كنوع من حالة الفرز يقوم بها معسكر التآمر والعدوان، إما بتهجير مكونات في المجتمعين السوري والعراقي أو بإحداث مجازر دموية بحق مكونات أخرى، من أجل الإتيان أو الإبقاء على مكونات معينة من ناحية توصف بأنها موالية لمعشر المتآمرين، ويقع عليها الرهان لإنجاح مشروع التفتيت والتدمير على النحو المشاهد الآن في كل من شمال سوريا (الحسكة والقامشلي وعين العرب وتل أبيض) حيث المكون الكردي، وجنوبها (الجولان المحتل والسويداء) حيث المحاولات لترويض المكون الدرزي، وفي شمال العراق (إقليم كردستان وكركوك وحتى الموصل) حيث المكون الكردي، وغربه (الأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى) حيث المحاولات لترويض المكون السني من مدخل تهميش هذا المكون.
وبنظرة فاحصة يبدو المخطط أن هناك تهيئة للظروف والعوامل المساعدة بحيث يسير في اتجاهين في سوريا؛ اتجاه تطهير الشمال السوري من أي مكون غير كردي وكذلك الشمال العراقي تمهيدًا لإقامة الدولة الكردية العتيدة التي يقف وراءها الصهاينة والأميركيون وبعض عملائهم من الحمقى والسذج في المنطقة. والاتجاه الآخر هو إعادة احتلال الجولان السوري من قبل كيان الاحتلال الإسرائيلي، واحتلال كذلك السويداء؛ أي بناء عمق أمني فاصل. والملاحظ أن التحركات العسكرية في شمال سوريا وجنوبها تسير بتنسيق وبوتيرة واحدة. إلا أن هذه التطورات رغم ميلها (المؤقت) لصالح مشروع تفتيت سوريا، فهي على الجانب الآخر مضرة بأعداء سوريا وفي مقدمتهم تركيا، ذلك أن المخطط الصهيو ـ أميركي لإقامة ما يسمى الدولة الكردية بدت تتضح معالمه من خلال الدعم الصهيو ـ أميركي اللافت والمعلن للأكراد في شمال سوريا في قتالهم لتنظيم “داعش” الإرهابي، حيث يلعب الطيران الأميركي دورًا كبيرًا في تعزيز قوة الأكراد في تل أبيض والرقة والحسكة والقامشلي، وكذلك لإزاحة إرهابيي التنظيم باتجاه المحافظات السورية الجنوبية نحو إدلب ودير الزور ودرعا وحماة والقلمون والجولان وتجميع العصابات الإرهابية في هذه المحافظات لتحقيق الحلم الصهيوني هناك.
وحين نقول إن تركيا أكبر المتضررين والخاسرين في المؤامرة على سوريا، فإننا نعني ذلك، فقيام دولة كردية تمتد من شمال سوريا إلى جنوب تركيا فشمال العراق، يعني بداية تقسيم تركيا وليس سوريا والعراق وحدهما، ومن ثم عزل تركيا وإيران ومنعهما من التنفس برئة المنطقة التي تعد المجال الحيوي الذي لا تستطيعان أن تستغنيا عنه. وما خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات ودخول حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ودخوله البرلمان لأول مرة في تاريخ الأكراد لتخطيه حاجز العشرة في المئة، سوى مقدمة لدور كردي فاعل في تركيا وما جاورها. صحيح أن السياسة الاستعلائية الأردوغانية والنظرية الأوجلوية (صفر مشاكل) تأتيان في مقدمة الأسباب التي قادت إلى ذلك، غير أن أصابع “سي آي إيه” حاضرة أيضًا. ولهذا يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدا يدرك أن التخندق في الخندق الصهيو ـ أميركي، والتنكر للجار السوري ونكران أفضاله له أثمانه وتبعاته الباهظة، ما جعله يطلق ـ أو يغض الطرف عن إنطلاق ـ أفاعي “داعش” نحو مدينة العرب مجددًا لترتكب فيها مجزرة راح ضحيتها أكثر من مئة وسبعين قتيلًا، على أمل تحقيق هدفين واضحين؛ عرقلة تقدم الأكراد وتشتيت جهودهم وإلحاق الهزيمة بهم من قبل “داعش”، ولمنعهم من تحرير محافظة الرقة من قبضة التنظيم الإرهابي، وبدلًا من البدء بإعادة النظر في السياسات الكارثية التي أدت إلى ذلك، ذكرت الصحف التركية السبت الماضي أن أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوجلو طلبا خلال اجتماع أمني مطلع الأسبوع في أنقرة من رئاسة الأركان التدخل في سوريا، في حين كتبت صحيفة حرييت أن ما لا يقل عن 12 ألف جندي جاهزين للتدخل في سوريا لإقامة “منطقة أمنية” بذريعة حماية الحدود التركية.
ولذلك، لا يمكن وصف القلق الأميركي عن التغيير الديموغرافي، سواء في سوريا أو العراق أو أي مكان آخر مستهدف صهيو ـ أميركيًّا إلا بأنه قلق فانتازي.
مقالات ذات صلة
رأي الوطن: أسواق تثري التعريف بالمقومات السياحية
25 أبريل,2018
مؤسساتنا : بين تقديم الخدمة وتأسيس مواطنة المواطن
25 أبريل,2018
باختصار: ياعذابنا !
25 أبريل,2018
المسرح في أدب صدقي إسماعيل ١ ـ ٢
25 أبريل,2018
البقاء لمن يفكر ويبدع ويبتكر
25 أبريل,2018
رأي الوطن: ثروة وطنية ينبغي صيانتها وإنماؤها
24 أبريل,2018
الأكثر قراءة
- الكويت : نتعامل مع السفارة الفلبينية وفق الإجراءات التصاعدية
- فعاليات الأسبوع التعريفي بالكلية العسكرية التقنية
- الذكاء الاصطناعي محور تركيز (كومكس 2018)
- الخام العماني فوق 70 دولاراً والأسعار العالمية تهبط مع زيادة أنشطة الحفر الأميركية
- رائحة الثأر تفوح من موقعة بايرن والريال في دوري ابطال أوروبا
- افتتاح فعاليات معرض الاتصالات وتقنية المعلومات «كومكس 2018»
- نبض واحد: ما قيمة المنصب بدون كفاءة؟
- الأمين العام بوزارة الدفاع يتوجه إلى تركيا
- اتفاقيات لتعزيز الأمن الغذائي ورفع الاكتفاء الذاتي بالسلطنة
- مركز الأمن البحري ينفذ تمرين الأمن البحري 2018 بالدقم