الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا الاتحادية والولايات المتحدة لوقف العمليات العدائية داخل سوريا، يمكن أن يمثل أرضية مشتركة للمتدخلين في الشأن الداخلي السوري والداعمين للتنظيمات الإرهابية وكذلك لحلفاء سوريا، إذا ما صدقت النيات لدى الأطراف المعادية والداعمة للإرهاب، والتزمت التنظيمات المسلحة التي لم يتفق على تصنيفها ارهابية بالاتفاق. ذلك أنه يمثل فرصة لتمييز التنظيمات الإرهابية ذاتها عن تنظيمي "داعش والنصرة" الإرهابيين، وتوقف الداعمون لها عن التمويل والتسليح، وهذا التمييز يمكن أن يقود إلى عملية الفرز السياسي فيما بعد.
إلا أن الاتفاق ذاته جاء في غضون ظروف لا تصب مصلحتها لكفة حلف التآمر والعدوان، حيث السقوط السريع واللافت للتنظيمات الإرهابية كأحجار الدومينو جراء فعالية الماكينة العسكرية الروسية ـ السورية، ونجاحها في كنس الأرض السورية من الإرهاب وتطهيرها، ما يعني أن الإرادة لدى من يقود حلف التآمر والعدوان تحركت نحو خيار وقف العمليات العدائية لفرملة الجيش العربي السوري، وإيقاف اندفاعة الماكينة الروسية ـ السورية عند الحدود والجغرافيا الحالية؛ لأن الخيارات الأخرى كالتدخل البري وتزويد التنظيمات الإرهابية بالسلاح النوعي كصواريخ ستينجر وغيرها المضادة للطيران، تعني تحول الحرب من حرب عصابات إلى حرب عالمية شاملة، وليس في وسع معشر المتآمرين خوضها لعدم معرفتهم بنهاياتها ونتائجها التي قد تكون كارثية عليهم؛ ولذلك خيار الاتفاق على وقف العمليات العدائية هو أحلى الخيارات المُرَّة بالنسبة لها، ومواصلة عملية استنزاف الخصوم (سوريا وحلفائها) على الأرض السورية وإنهاكهم هو الخيار المثالي، كما أنه يعطي فرصة لالتقاط الأنفاس بالنسبة للتنظيمات الإرهابية المنكسرة والمهزومة.
وحين نقول إن الاتفاق لن يكون ناجزًا وتعتريه صعوبات جمة في عملية التطبيق فإننا نعني ذلك، بالنظر إلى معطيات عديدة غفل عنها الاتفاق إما عمدًا جراء احتدام الخلاف بين موسكو وواشنطن، وبالتالي تم ترحيلها أو القفز عليها، لعل الظروف عند تطبيق الاتفاق تسمح بالتغلب على تلك الصعوبات. ومن بين هذه المعطيات الدالة على الصعوبات التي تواجه عملية التنفيذ، أن الاتفاق لم يحدد التنظيمات الإرهابية المنصهرة أو المصهورة مع تنظيمي "داعش والنصرة"، وهذا يعبِّر عن أحد الخلافات العميقة ومحاولة التحايل عليها بترحيلها، وإعطاء الانطباع بأن عدم تحديد هوية التنظيمات الأخرى المنتمية إلى الإرهاب القاعدي هو من أجل إعطاء فرصة المراجعة لتلك التنظيمات لتميز ذاتها وتعلن الطلاق البائن عن الإرهاب القاعدي، وتعلن انضمامها إلى الجيش العربي السوري في محاربة الإرهاب. ومن بين المعطيات أيضًا أن الاتفاق لم يأتِ على السبب الحقيقي للانتشار اللافت للإرهاب وتعدد تنظيماته داخل سوريا ألا وهو فتح الحدود التركية تحديدًا والدور التركي في ضخ الإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة، فضلًا عن الدعم الغزير والسخي جدًّا جدًّا للتنظيمات الإرهابية والذي كانت استباحة الأراضي السورية بالمدفعية أحد أبرز أدلته. فغلق الحدود وإلزام تركيا وغيرها بذلك ووفق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، من شأنهما أن يرفعا الظلم والمعاناة عن الشعب السوري ويحفظا سيادة سوريا الدولة العضو في الأمم المتحدة. أضف إلى ذلك أن التداخل الجغرافي بالنسبة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيمي "داعش والنصرة" والتنظيمات الأخرى وتداخل الجبهات، قد لا يسمح وربما لن يسمح بعملية الفك والتركيب بما يمكِّن من السيطرة على جغرافيا متصلة ومكتملة.
على أن هذا التداخل بين الجبهات من شأنه أن يسمح باندساس عناصر إرهابية مأجورة لخرق الهدنة، سواء في إطار محاولة التشويش والتحريض وإلصاق تهمة الخرق بالجيش العربي السوري، أو في سياق محاولات إعطاء المبررات للقيام بأعمال عدوانية. فالتصريحات القادمة من أنقرة ولندن ـ على سبيل المثال ـ ليست بريئة وتشي بالكثير من الشكوك، حيث أبدى نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش أمام الصحفيين تحفظات حول استمرارية وقف إطلاق النار محاولًا التشكيك في الدور الروسي قائلًا "نأمل ألا يحاول أحد القيام بضربات جوية وألا يقوم أحد بقتل مدنيين خلال فترة سريان وقف إطلاق النار". في حين قال وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند في بيان إن "روسيا، على وجه الخصوص، يجب أن تحترم هذا الاتفاق عبر وقف هجماتها ضد المدنيين السوريين وجماعات "المعارضة المعتدلة" واستخدام نفوذها من أجل ضمان أن يفعل "النظام" السوري الشيء نفسه". ما يعني أنه بإمكان عناصر إرهابية محسوبة على أنقرة القيام بعملية ضد تركيا أو على الأراضي التركية انطلاقًا من سوريا، أو أن يقوم طيران التحالف الستيني بغارات ضد المدنيين السوريين أو ما يسمى "المعارضة المعتدلة" واتهام روسيا والجيش العربي السوري كما فعلت الطائرات الحربية الأميركية باستهداف مستشفيات ومحطات كهرباء سورية وأشير بأصابع الاتهام إلى روسيا، وكما فعل التحالف الستيني باستهداف مدنيين في الحسكة وحاول متآمرون اتهام روسيا بعملية الاستهداف.
إذًا، نجاح الاتفاق بحاجة إلى خط رجعة من قبل واشنطن ومن تقودهم في معسكرها، وإلا في شكله ومضمونه الحالي لا يمكن فهمه سوى أنه محاولة لالتقاط الأنفاس وتعطيل حركة الجيش العربي السوري والعمليات الجوية الروسية.