[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]

”لست أدعي قط أن هناك خللا في لغة العرب العظيمة، ذلك أن عظمتها كانت دائماً وراء الميل العربي للفظي، ومن ثم للافتتان بالمبالغ به والمكرر. بيد أن للمرء أن يدعي أن الإشكال في هذه الحال يتلخص في أن علينا، عرباً، العمل على إيجاد وسائل اتصال لغوية خالية من الإطناب والتكرار والحشو، خاصة بقدر تعلق الأمر بتشبثنا بالعلوم الحديثة والتقنيات الشائكة، ذلك أن هذه الحقول لا تسمح بالشعري وبالزائد والمحشو.”

إذا كانت العرب قد قالت: "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، فإن هذه الحكمة الكامنة في قلب البلاغة، لم تحظ باهتمام العرب الجاد ولا بالالتزام الثقافي الذي تستحق. وكانت النتيجة النهائية، كما نلاحظها اليوم، هي أن العرب غدوا أكثر الأقوام افتتاناً بالإطناب وبالحشو وبالتكرار وبما لا حاجة له من الكلام. ربما كان ذلك من معطيات حقيقة مفادها أن ثقافة العرب الأصل هي ثقافة لفظية، تعتمد اللغة محوراً أساساً لها، فلا تأبه بالعلوم والتقنيات الحديثة وبلغة العلم الدقيقة التي يحدد فيها اللفظ مقصوداً واضحاً، لا ريب فيه.
لست أدعي قط أن هناك خللا في لغة العرب العظيمة، ذلك أن عظمتها كانت دائماً وراء الميل العربي للفظي، ومن ثم للافتتان بالمبالغ به والمكرر. بيد أن للمرء أن يدعي أن الإشكال في هذه الحال يتلخص في أن علينا، عرباً، العمل على إيجاد وسائل اتصال لغوية خالية من الإطناب والتكرار والحشو، خاصة بقدر تعلق الأمر بتشبثنا بالعلوم الحديثة والتقنيات الشائكة، ذلك أن هذه الحقول لا تسمح بالشعري وبالزائد والمحشو.
ربما كان هذا النوع من اللغة المختزلة، الخالية من الزوائد، وراء مسببات تقدم العالم الغربي علميًّا، إذ إن العلم يميل دائماً للترميز ويفضل الرموز، بمعناها العلمي، وليس الشعري، فالإنسان الغربي يفضل الكلام عن الماء بصفته H2O لأنه أكثر دقة من ذلك العنصر النادر عبر صحارى بلاد العرب من الجزيرة إلى مراكش.
الغربيون يفضلون اختصار كل شيء من اسماء العلم إلى الفنون ووسائل الاتصال: فجورج يتحول عندهم إلى "جو" وسوزان تتحول عندهم إلى "سو"، بينما يتم ترميز أسماء المؤسسات والكيانات على نحو مفرط درجة أن الوافد إلى العالم الغربي من العالم العربي يجد نفسه ضائعاً في غابة من الرموز والمختزلات حتى يرفع العلم الأبيض ويعلن استسلامه أمام ثقافة الاختزال أو ثقافة "الزيادة كالنقصان"!
أما في مجال الفنون، فتتبلور ميولات الإنسان العربي للحشو والإطناب والتكرار في الموسيقى والأغنية وسواهما من الفنون، ذلك أنك إن أعلمت فرداً أوربياً بأن لدينا من الأغاني ما يتجاوز بعضها النصف ساعة طولاً، فإنه سيرتبك ويغص أثناء عبّه العصير، لأن هذا شيء لا يصدق في عالم ليس على استعداد لتجميد الآلاف من أبنائه طوال وقت الاستماع لأغنية طولها ساعة كاملة!
حتى إذا ما لاحظنا الكتابات الرسمية وسواها من المخاطبات كالشكاوى والردود، نجدها عندنا مرآة لميل الذهنية العربية للإطناب، على عكس تلك التي تظفر بها في المخاطبات الرسمية في العالم الغربي، هم لديهم صيغ ثابتة للمراسلات والمخاطبات الرسمية، صيغ لا تسمح للعواطف والمشاعر وللإثقال بالمعنى قط.
اذكر مرة أن صديقاً لي سافر في ستينيات القرن الماضي إلى أوروبا وأراد أن يرسل لي بطاقة تهنئة. عندما قرأت ما كتبه عنواناً كان مضحكاً بحق، إذ إأن عناويننا كانت من نوع: البيت الخامس يساراً، مقابل حلويات جواد الشكرجي في شارع الزيتون. قرأت هذا العنوان المطول، ثم نقلت ناظري إلى عنوان صديقي في أوروبا فإذا به لا يزيد عن: رقم، اسم شارع، رمز بريدي واسم المدينة. هو غاية في الاختزال. ليس هناك وصف ونقاط دالة، العنوان البريدي لا يقبل الشك أو الخطأ درجة أن تدشين عصر "الدرونات"، أي الطائرات بلا طيار سيقودنا إلى الاستغناء عن رجل البريد (البوسطجي) الذي تزعجه في حرارة صيف بغداد فتكتب عنوانك على الغلاف كما فعل أحدهم عندما أرسل رسالة إلى صديق له يعمل في وزارة الدفاع في بغداد، إذ كتب العنوان كما يلي: فلان الفلاني، وزارة الدفاع، مقابل لبن أربيل، بغداد!