[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]” إني أسمع هنا و هناك في بلادنا اقتراحات و توصيات بشأن الحصانة الأمنية والعسكرية وهي ضرورية إلا أن قوة بلادنا الحقيقية ليست في المزيد من حفر الخنادق بيننا و بين الجارة ليبيا بل في تعزيز جبهتها الداخلية بإنجاز الإصلاحات الكبرى التي يحتمها الوضع الراهن وتقتضيها مستحقات ثورة شعبية لا يمكن إنكار مشروعيتها.”

لا يمكن أن ينكر عاقل مناخ الريبة والترقب الذي يخيم على بلادنا الأمنة لا منذ الثورة كما يدعي الأغبياء بل في الحقيقة بسبب تراكم الأخطاء وسوء الخيارات منذ جيلين من التوانسة أي منذ أن استقلت تونس عن الإستعمار الفرنسي ورممت الدولة الوطنية فقام الزعيم بورقيبة بوضع مؤسساتها مستعينا بالكفاءات التونسية في الإدارة وتم إنجاز مكاسب شعبية تمثلت في مقاومة القبلية والعروشية وفي تعميم التعليم المجاني ونشر مستشفيات للقضاء على الأمراض وتركيز السلطات الإدارية والبلدية وتأسيس جيش وطني وسلك أمن جمهوري و قضاء ومحاكم مما حصن المجتمع التونسي مؤقتا من الهزات الخطيرة ونشأت بفضله أجيال متعلمة تسلمت مصير البلاد باقتدار. لكن هذه المكاسب لم تكن في مأمن أمين من خطرين مهددين: الخطر الأول هو إختيار الزعيم لنهج الحكم الفردي شبه المطلق كرد فعل سريع ضد مؤامرة 1962 وخوف الزعيم مما سماه شبح الفتنة والفوضى فرفع شعار (الوحدة القومية) وهي تعني التفاف الجميع حول قرارات الرئيس بدون تردد و بلا مناقشة وهذا الخيار الخطأ هو الذي جر تونس إلى أزماتها التاريخية المعروفة مثل أزمة التعاضد التي ورطت المجتمع في سياسات لم يكن مهيأ لها واختار الزعيم أن يضحي بكبش فداء هو أحمد بن صالح ومن عمل معه من كوادر تونسية عالية عوض التراجع السليم والسلمي والجريئ عن خيار تعميم التعاضد دون المظالم التي طالت أحمد بن صالح والتي أفقدت الدولة هيبتها ومصداقيتها لكن قيض الله لتونس بالمصادفة رجلا وطنيا هوالهادي نويرة رحمه الله فرمم ما تبقى من أنقاض الدولة وأعاد الثقة للمواطن وعاشت بلادنا أفضل عشرية بعد إستقلالها لأن الزعيم اضطر الى الابتعاد عن الشأن العام بسبب تراكم أمراضه ورفعت أيدي زوجته وحاشيته بعض الشيء عن التدخل المباشر في شؤون الحكم. ثم جاء محمد مزالي كرئيس للحكومة في مناخ متعفن بعد أن وقعت كارثة التصادم بين الإتحاد العام التونسي للشغل والحكومة وتوجت بالإضراب العام ليوم الخميس 26 يناير 1978 وانتهاء الأحداث بتدخل الجيش ومقتل 150 متظاهرا. و تزامن هذا التأزم الإجتماعي مع عملية قفصة المسلحة بإيعاز من جارنا معمر القذافي في يناير 1980 فكان الجو العام ملغما وقابلا للإشتعال لكن وعي الشعب التونسي و نخبته أعطى للدولة فرصة لترميم النسيج السياسي والنقابي الممزق لمدة قصيرة حتى وقع التصادم الثاني والأخطر بين المتنافسين على وراثة الرئاسة وتقاسم تركة الرجل العجوز وبدأ العد العكسي لهيبة الدولة واستقرار المجتمع بمظلمة أخرى من صنف المظالم التاريخية بالتصفيات القضائية والمحاكمات الكيدية وضربنا في أرض الله في المنافي لمدة 14 عاما. وعندما تسلم زين العابدين بن علي السلطة بانقلابه الطبي تنفسنا الصعداء معتقدين أن هذا الرجل العسكري غير معوق بماضيه ويمكن أن يكون جسر تحول ديمقراطي لإصلاح الأخطاء البورقيبية و وضع البلاد على المسار الصحيح لكن يا خيبة الأمل فما أن استقر الحكم له حتى بدأت التصفيات الجديدة و التنكر لوعود السابع من نوفمبر و تدشين عهد الحكم المطلق بالتحالف بين المافيات المتوحشة و الفساد الشامل و الإعلام المأجور وهو ما أدى الى حركات الإحتجاج بسبب تفاقم الظلم الإجتماعي و شيوع البطالة. أما الخطر الثاني فهو تهميش المناطق الداخلية المنسية من برامج التنمية على مدى ستين عاما.
اليوم نحن على أبواب أزمة إقليمية تتجاوزنا جميعا ليس لدينا عصا سحرية لمعالجتها لأن أسبابها عالمية تهدف إلى تقسيم جديد للدول على قياس مصالح القوى العملاقة والإقليمية وهذه حقيقة ما سيحدث في ليبيا من تدخل عسكري وشيك ستكون تونس فيه الحلقة الأكثر تماسا مع تداعياته المباشرة. إني أسمع هنا و هناك في بلادنا إقتراحات و توصيات بشأن الحصانة الأمنية والعسكرية وهي ضرورية إلا أن قوة بلادنا الحقيقية ليست في المزيد من حفر الخنادق بيننا و بين الجارة ليبيا بل في تعزيز جبهتها الداخلية بإنجاز الإصلاحات الكبرى التي يحتمها الوضع الراهن وتقتضيها مستحقات ثورة شعبية لا يمكن إنكار مشروعيتها. إن التردد الذي نلمسه لدى الحكومة هو مضيعة لوقت ثمين يجعل المجتمع هشا و قابلا لأية تلاعبات بخياراته وردود أفعاله فالجبهة الداخلية القوية هي الصخرة الصماء التي تكسر رؤوس كل من ينطحها و قد وعد الرئيس الباجي قايد السبسي بأن تكون سنة 2016 سنة الجرأة في إنجاز الإصلاحات الضرورية وعند اطلاعي على برنامج أعده مجلس مكلف بإعداد خارطة طريق للإصلاحات الكبرى يديره وزير سمي لهذا الغرض هو توفيق الراجحي فوجئت بالطابع الفني والتقني المحض لبعض الاقتراحات حول تعديل النظام البنكي وترتيب أولويات مالية في الميزانية أي اقتراحات ليست جذرية و لا تغير بعمق ما نسميه منوال التنمية فالمطلوب هو وضع برنامج لتحويرات سياسية بل و حضارية بشكل شامل حتى نواجه العراقيل الكأداء ونوفر التنمية و نفعل آليات التشغيل و نوزع ثروات البلاد بالعدل و نواجه مواقع الفساد والبيروقراطية والتعطيل بجرأة كبيرة أي بقرارات سياسية و حضارية لا بلمسات خفيفة يراها هؤلاء التكنوقراط ضرورية بل لعلها كذلك لكنها تظل مبتورة و عاجزة عن تأهيل بلادنا للعودة لحركة التنمية والاستقرار و نبذ العنف و السلام الاجتماعي. ثم لماذا سيدي رئيس الجمهورية وسيدي رئيس الحكومة عوضا عن الاكتفاء بهذه التعديلات الطفيفة لا تفتحوا باب استشارة وطنية شاملة يشارك فيها مجلس النواب والمنظمات الأربع الفائزة بجائزة نوبل ونخبة تختارونها من بين الكفاءات الجامعية والعلمية والجمعيات العديدة الموزعة في كل أنحاء البلاد ثم تخرجون باستنتاجات عملية قابلة للتنفيذ في إطار إمكانات الدولة وهذه الفريضة الغائبة تحمست لها كل هذه الأطراف للخروج من حالة الاحتقان من أجل تحصين تونس من الأخطار الداهمة ليجدها الأشقاء و الأعداء قلعة قوية راسخة عصية عن أي استعمار مباشر جديد محتمل.