[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
”ندعو وسائل الإعلام إلى أن تقوم بدورها الأساسي في بناء الثقافة العامة للمواطن، فضلا عن تأكيد دورها في إعادة بناء القيم المساندة للتطور والتحديث والفضائل، كقيم المساواة والتسامح والقبول بالآخر وحق الاختلاف وعدم التميز ورفض الطائفية والمذهبية، وفضح الظلم والطغيان والبغي والدكتاتوريات من خلال إسماع العالم صوت المقهورين والمظلومين في مختلف أرجاء العالم،”

قبل أربعة قرون تقريبا أطلق رجل الدولة والفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون مقولة: ان المعلومات قوة، ويجادل المؤرخ روبرت دارنتون من جامعة برينستون بولاية نيوجيرسي الأميركية بقوله: ان كل عصر هو عصر معلومات بطريقته الخاصة به، ونقول: ان القرن الـ21 هو عصر قوة المعلومات من حيث السرعة والكثافة والانتشار والتأثير، وحيث تعتبر وسائط الإعلام « كتويتر والوات ساب والفيس بوك» وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي من جهة من أهم الوسائل الحديثة للتعبير عن الرأي وطرح الأفكار والتنفيس عن الهموم ومناقشة التحديات والعوائق والتوجهات لدى أفراد المجتمع المدني الحديث، وحلقة الوصل بين المجتمعات الإنسانية في مختلف بقاع العالم، فهي من جهة أخرى تشكل منفذا مروريا خطيرا لحركة الأفكار والمعلومات الهدامة، والتي يمكن من خلالها قلب الحقائق وتأليب المجتمعات المستقرة على أنظمتها وحكوماتها، ونشر الفتن وترويج لأدب الانحلال وما إلى ذلك.

وإذا كان غالبا ما تحمل وسائط الإعلام معلومات وأخبار وتعليقات تفيد المجتمع وترتقي بفكره وبالتالي يجب إفراد مساحة طيبة وواسعة لها من الحرية والاستقلال، إلا أن البعض – وللأسف الشديد – قد يتعمد الإساءة إلى الأخلاق والمبادئ والقيم المتعارف عليها داخليا ودوليا، من خلال استغلال تلك القوة لأهداف سيئة، سواء كانت تلك الأهداف ذات توجهات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو غير ذلك، ومن هنا (اختلف الفقهاء ورجال الفكر والسياسة وكذلك أنظمة الحكم المختلفة في المصلحة التي يجب ان ترجح على الأخرى، ورأى البعض مساندة الحرية إلى أوسع مدى بغض النظر عن نتائجها، بينما اتجه آخرون إلى ضرورة الحماية ووضع الحدود الدولية على ممارسة هذه الحرية).
وفي هذا السياق نجد ان الركائز الفكرية الأساسية التي ينطلق من خلالها المعسكر الأول، - ونقصد – الاتجاه الذي ينادي بحرية واستقلال الإعلام واضحا في أفكار رجال الثورة الفرنسية كميرابو والفريد ناكيه، حيث يقول هذا الأخير ان: الصحافة لا تستطيع ان تحدث أي أذى لأن الإيمان بالأفكار لا يسبب ضررا للناس، ولا تقوم أجهزة الإعلام بأفعال حتى يمكن ان نحاسبها على ما تقوله ويتجه هذا الرأي إلى القول: ان الأضرار التي تنجم عن تقييد وسائط الإعلام اكبر بكثير من المصلحة التي تتحقق بتحريرها بشكل كامل من القيود ، أما الاتجاه الآخر والذي يدعو إلى ضرورة وضع بعض الضوابط والقيود المنظمة لحركة وسائط الإعلام، فينطلق من فكرة إمكانية استغلال تلك الوسائط بطريقة تضر بمصلحة الدولة والمجتمع على حد سواء، من خلال التأثير على أمنها القومي واستقرارها الاجتماعي وعلاقاتها الدولية، كان يترك للدعوة للحروب أو التمييز والعنصرية والطائفية والمذهبية بين الشعوب والتشهير والتحريض على الفتن.
والواقع ان الوثائق الدولية المتعلقة بتنظيم حرية التعبير والنشاط الإعلامي متعددة بهذا الخصوص، وإذا وقفنا عند التاريخ القريب لها، فإن ميثاق الأمم المتحدة يعد بداية مهمة في هذا الشأن، يليه ما قامت به هذه المنظمة من جهد في بلورة هذا الحق وصياغة ضوابطه القانونية والأخلاقية، وكذا جهد منظمة اليونسكو له أهميته البالغة في هذا الجانب، وهكذا نرى أحكاما في الميثاق نفسه تخص حرية التعبير بشكل عام وأحكاما أخرى في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948م، واتفاقية الحقوق المدنية والسياسية المبرمة في عام 1966 واتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي أبرمت في نفس العام، كذلك اتفاقية الحق في التصحيح الدولي لعام 1952م، كذلك الإعلان الخاص باستخدام التقدم العالمي والتكنولوجي لصالح السلم وخير البشرية والصادر عن الجمعية العامة بشأن المبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي وتعزيز حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية والتحريض على الحرب لعام 1978م.
وإذا وجدنا ان نص الإعلان العالمي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1948 – المادة 19 يقرر حق كل شخص في المجتمع في ممارسة حرية الرأي بدون أي قيود او تدخل، فإننا نجد كذلك وعن نفس المنظمة الدولية ما يمنع نشر أي موضوع إعلامي يسيء للأخلاق ويمس احترام وحقوق وسمعة الآخرين كما ورد ذلك في الفقرة الثانية من نفس المادة سالفة الذكر من المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية والتي أقرتها دول العالم في اتفاقيتين ممثلة في الهيئة السابقة، الأولى بتاريخ 23/ مارس / 1976 والثانية في 3 / يناير / 1979 .
كذلك فإن المادة (20) من نفس الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان في جانبها السابق تحظر بدورها التعبير عن الرأي في الحالات التي تضر بالمجتمع الدولي فقد نصت على التالي، أولا يمنع بحكم القانون كل دعاية من اجل الحرب، ثانيا يمنع بحكم القانون كل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية والتي من شأنها ان تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف.
وبعيدا عن القانون الدولي ومنظمات حقوق الإنسان ونصوص المعاهدات الأممية، فإننا كأمة مسلمة نستند في مطالبنا وحقوقنا الإنسانية والسياسية والمدنية على مواد ونصوص ووثائق أعظم واجل، - واقصد – بذلك كتاب الله عز وجل، والذي ينادي بالوسطية في كل شؤون الحياة، يقول عزوجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وقوله تعالى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} صدق الله العظيم، وغيرها الكثير من الآيات والأحاديث النبوية.
والحقيقة ان الدولة التي تفرض القوانين التي تنظم بعض الحريات الإعلامية والصحفية» ان صدقت في نياتها الموجهة للإصلاح والارتقاء بمستوى الوعي بالحرية» تمارس في هذا السياق نوعا من الحد من انتشار لتلك الغرائز الفجة والانفعالات والأهواء او بث الفتن والفاحشة بين أفراد المجتمع، يقول الله عز وجل «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ»، وهذا اللون من التقييد بحسب هيجل هو جزء من الوسيلة التي يمكن عن طريقها «وحدها» ان يتحقق الوعي بالحرية والرغبة في بلوغها في صورتها الحقيقية، فالقانون والأخلاق مستلزمات ضرورية للمثل الأعلى للحرية.
وفي هذا السياق فإنه ليس في الشريعة الربانية والقوانين الأممية والوضعية والفطرة البشرية والإنسانية ما يدعو لحرية مطلقة يتم فيها الاعتداء على حقوق الآخرين والتحريض على الحروب والفتن والقلاقل واستقرار الأوطان وطمأنينة المجتمعات، أو يدعو للطائفية والعنصرية والتمييز، أو ينشر كل ما يمس الأخلاق الفاضلة والآداب الحميدة، أو يدعو الانحلال والمجون، إلا انه كذلك، ومما يجب التنبيه إليه كثيرا، انه لا ينبغي استغلال هذا الأمر لتقييد الحريات وكبح الإبداعات والتعبير المسؤول عن الرأي سواء كان ذلك تجاه سياسات الحكومات أو المسئولين في أي نظام سياسي.
نعم .. نحن نرفض الطغيان والتسلط والتعسف الرسمي ضد وسائل ووسائط الإعلام بمختلف أشكالها، لا لشيء إلا بهدف تكميم الأفواه وتركيع الفكر والوعي المجتمعي للسلطة، إلا أننا نرفض في نفس الوقت كذلك الفوضى والتفسخ والانحلال الإعلامي باسم الحريات، (فاستقامة الطبع والفكر تقتضي الإقرار بالحق الخالص دون ميل مع الهوى والشهوات، والحق ان كل معنى جميل يمكن استغلاله والتستر وراءه لقضاء المآرب الشخصية، وقد ارتكبت باسم الحرية أفظع الجرائم عبر التاريخ)، إذا وكما نطالب الحكومات والأنظمة بإفساح المجال أمام الشعوب للتعبير عن رأيها ومطالبها وحقوقها الإنسانية في مختلف مجالات الحياة، وعدم الوقوف حائلا دون تلك الحقوق التي شرعها الله عز وجل، فإننا كذلك نطالب بوعي مجتمعي مسؤول بذلك الحق والاستخدام السليم المسؤول لتلك الوسائل والوسائط الخاصة بالتعبير عن الرأي والحرية.
ندعو وسائل الإعلام إلى ان تقوم بدورها الأساسي في بناء الثقافة العامة للمواطن، فضلا عن تأكيد دورها في إعادة بناء القيم المساندة للتطور والتحديث والفضائل، كقيم المساواة والتسامح والقبول بالآخر وحق الاختلاف وعدم التمييز ورفض الطائفية والمذهبية، وفضح الظلم والطغيان والبغي والدكتاتوريات من خلال إسماع العالم صوت المقهورين والمظلومين في مختلف أرجاء العالم، وندعو إلى إعلام مسؤول يستشعر قيمة تلك الأمانة الوطنية والأخلاقية والإنسانية التي يتحملها، كما يجب أن يتنبه المجتمع الإسلامي إلى ان تلك القيم والحريات الإعلامية المطلقة واللا مسؤولة التي يحرض عليها الغرب ويدعو إليها في العالم العربي، ونجد الكثير من أفراد المجتمع يتهافت عليها، هي حريات سلبية يرفض تطبيقها ونشرها وتعميمها بالطريقة التي يدعونا إليها بين أفراد المجتمع الغربي نفسه، والدليل على ذلك ما سلف وذكرناه من نصوص القوانين والمواثيق الدولية وكذلك الأخلاق والقيم الإنسانية الفاضلة.