لا يحتاج المتابع لصيرورة الأحداث في تونس البلد الذي انطلقت منه عواصف "الحريق العربي" والتي اصطلح الغرب على تسميتها بـ"ثورة الياسمين" إلى عناء جهد لتشخيص الوضع الذي آلت إليه تلك العواصف، حتى يدرك مدى الفرق بين "الربيع" و"الحريق" الذي أريد منه أن يغيِّر وجه المنطقة بصورة كلية وتامة. فالهجمات الإرهابية الدامية التي شهدتها مدينة بن قردان المتاخمة على الحدود الليبية هي واحدة من الدالات التي تختزل ما حيك بليل ضد المنطقة لإعادة رسم خريطتها لصالح قوى الشر والإرهاب وفي مقدمتها كيان الاحتلال الإسرائيلي.
الحبيب الصيد رئيس الحكومة التونسية في مؤتمر صحفي أكد أن "حوالي 50 شخصًا أكثرهم توانسة" هاجموا بشكل "متزامن" الثكنة العسكرية ومديريتي "الحرس الوطني (الدرك) والأمن الوطني (الشرطة)" في بن قردان بهدف "احتلال" هذه المنشآت الأمنية و"إحداث إمارة داعشية" في المدينة.
وما من شك أن هذا التأكيد يعيد المتابع إلى المربع الأول لحظة انطلاق شرارة "الحريق العربي" وحالة الخلط بين "الثورة" والإرهاب والفوضى. فالثورة تأتي دائمًا من أجل تعديل أوضاع ولتحقيق مطالب الشعب، وليس العكس، باصطياد الشباب واستغلال أوضاعهم وتجنيدهم لأجل أهداف وأجندات ومشاريع خارجة عن سياق المصلحة الوطنية وعن سياق تنمية الموارد البشرية وكسبهم واستغلال طاقاتهم لما يخدم وضعهم الاجتماعي والمعيشي.
ومن يطالع اليوم خريطة توزع التنظيمات الإرهابية في المنطقة يجد أن العنصر التونسي أحد المكونات الرئيسية لها، وهذا يعكس مدى استغلال الشباب التونسي مثل الليبي والسوري واليمني الباحث عن العمل وإغرائه بالمال، وتلويث فكره بمزاعم "الجهاد" و"الحوريات" ومن ثم توظيفه ليكون خنجرًا مسمومًا ينحر وطنه الصغير والكبير. ومن المؤسف أن الحكومات التي جاءت بُعيد ما سميت بـ"ثورة الياسمين" في تونس نشطت في عهدها عمليات التجنيد والاستغلال للشباب التونسي المعوز والباحث عن عمل وترويج فكرة "الجهاد" والفوز بـ"الحوريات" في الجنة في بلاده وفي سوريا والعراق وليبيا وغيرها ـ وباغراءات مالية مصدرها دول معروفة كانت ولا تزال تتمسك بنهج التدخل في شؤون البلدان الأخرى ـ وتحاول الحكومة التونسية الحالية إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتجنيب الشباب التونسي ويلات هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والدمار، واتخاذ مواقف جريئة وشجاعة تجاه ما يجري في المنطقة، سواء في سوريا أو ليبيا، وإعادة البريق والعافية إلى وجه تونس الخضراء.
إن هذه التطورات المتلاحقة التي برزت كتحدٍّ للحكومة التونسية بصفة خاصة وتونس بصفة عامة تطرح مسألة مهمة وهي أن ما يحصل الآن في تونس من محاولات إقامة إمارات للإرهاب في بن قردان وجبل الشعانبي وغيرهما هو نتيجة طبيعية، وأن تونس ليست حالة استثنائية، فكل قطر انخرط في هذا الطريق الأسود، وشجعت حكومته شبابه على ذلك، لا بد له يومًا من أن يدفع فاتورة الحساب ثمنًا باهظًا ويحصد ما زرع، وهذا بالتأكيد لا يختلف فيه اثنان، ويجب أن يدفع الجميع إلى أن مواجهة الإرهاب لم تعد تحتمل المزيد من النفاق والمداورة، وأي مجازفة بعيدة عن تلك المقاربة ستكون انزلاقًا إضافيًّا في الفوضى والخراب، ومرتعًا لمزيد من مشاهد تفشِّي الإرهاب، واتساع مساحة انتشاره وستضاعف من تكاليف مواجهته سياسيًّا وعسكريًّا وبشريًّا، وسيظل الجميع في دوامة من عدم الاستقرار بما في ذلك كل قطر راهن على الإرهاب ودعمه. فما يحدث في تونس هو درس وعبرة للجميع حتى لو كان بينهم من هو ضالع فيه وداعم للإرهاب أراد معاقبة تونس على مواقفها.