[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/tarekashkar.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]طارق أشقر [/author]
بقراءة اسم الحفار قد يتبادر للذهن بانه استدعاء لمرحلة هامة من مراحل الصراع العربي الإسرائيل في ستينيات القرن الماضي، عندما نجحت المخابرات المصرية في مارس 1968 لتعطيل المساعي الإسرائيلية للتنقيب عن النفط بخليج السويس، وذلك عبر تفجير حفار البترول ( كينتينج) بميناء ابيدجان بساحل العاج خلال رحلته من كندا لإسرائيل. فظل هذا الاسم (الحفار) راسخا في الذاكرة العربية، ومحفورا بحروف من نار بمنطق الحرب ونور بمنطق الإنجاز في صفحات تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي المتعطش طرفاه للوصول الى نهاية له قد لا تبدو قريبة في الأفق.
أما الحفار في سياق هذا المقال، فهو اندياح تاريخي واسترسال لسلسة انجازات الذهتية العربية اينما وجدت دون تقيد بجغراقيا المكان، حيث يعتبر تسجيل لمبادرات مجموعة من الشباب العرب بحروف من نور، كونه يمثل نموذجا حداثيا للصراع مع الصعاب دون استخدام لمتفجرات الحروب، بل تمثل في توفيق وحسن استخدام الشباب العربي لوسائل التواصل الاجتماعي في بقعة من بقاع الوطن العربي، وهي مدينة كركوج احدى مدن الريف السوداني بمحافظة السوكي وسط السودان.
فقد أصبح اسم الحفار في تلك المدينة في مارس الجاري من هذا العام 2016 ثيمة احتفالية لمجموعة من الشباب درجو على استخدام (الواتساب) لأكثر من عام ليسلطوا الضوء من خلاله على ما تعانيه منطقتهم من نقص في الخدمات خصوصا الخدمات الصحية وخدمات المياه، حيث ظلت مدينتهم وبسبب الزيادة السكانية المتتالية سنويا ولأسباب اهمال اداري وسؤ توظيف لموارد المياه المتاحة فرضته الظروف الاقتصادية، ظلت الأحياء الجنوبية من مدينتهم تعاني العطش قرابة الثلاثين عام الماضية.
وفي سلوك حضاري واع، تنادى مجموعة من شباب تلك المدينة عبر وسائل التواصل الاجتماعي متجاهلين خلافاتهم في القناعات السياسية والفكرية، مركزين في مداخلاتهم وعلى ما يجب اتخاذه من إجراءات تجاه توفير مياه الشرب النقية في الأحياء الجنوبية بمدينة كركوج، وعلى أبرز ما يحتاجه المستشفى التخصصي في مدينتهم مستخدمين الواتساب كمنبر للتفاكر وتبادل الآراء والتواصل بين المستنفذين من أبنائهم في المؤسسات الحكومية لتوصيل مطالباتهم الخدمية الى مراكز اتخاذ القرار، ومنادين أبناء المدينة من المقتدرين ماليا للمساهمة بما يستطيعون للمساعدة في توفير الخدمات بمدينتهم دون أن يتطاولوا على جهة أو على بعضهم البعض.
فظل الحصول على حفار متطور للوصول الى الأعماق الجوفية البعيدة للمياه بحكم الطبيعة الجيولوجية لمنطقتهم هدفا منشودا، جنبا الى جنب تطوير المستشفى وإصحاح البيئة وصيانة المدارس، فكونوا لذلك مجموعات متفقة حول نفس الأهداف وهي (قروب كركوج بلدنا) و(قروب شباب الخير ايدينا للبلد) و(منتدى كركوج التنفيذي) على الواتساب، حيث تميزت هذه المجموعات الثلاث بأن العضو في أي منها مشارك بالعضوية في الثلاث مجموعات، حتى تمكنوا من تسجيل مؤسسة غير ربحية بشكل رسمي اطلقوا عليها اسم (شاكرون) لتقوم بالسعي لتنفيذ الأعمال الخدمية التي تحتاجها منطقتهم.
وبتتابع مداخلاتهم، تمنكوا من تنفيذ عدد من الأنشطة والبرامج الاجتماعية والصحية والخدمية، بينها إعادة تأهيل المستشفى المحلي الجاري العمل فيه وإمداده بعدد من الأجهزة الطبية الضرورية وتسويره، وتنفيذ حملات لنظافة احياء المدينة، وغيرها من البرامج الخدمية.. واستمروا على هذا النهج حتى تمكنوا أخيرا وبالتنسيق مع بعض الجهات الرسمية ذات الاختصاص وبقدر ما تستطيع، من جمع ودفع متطلبات استئجار حفار متطور من الحفارات المتخصصة في عمليات التنقيب ليبدأو في حفر بئر مياه بالجهود الذاتية ابتداء من الأسبوع الأول من مارس الجاري، علهم يتمكنوا من إنهاء سنوات من العطش بمنطقتهم.
وما أن وصل الحفار إلى كركوج العطشى، الا واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي احتفاءً بالحفار وبما تم الحصول عليه من معينات وأجهزة للمستشفى المحلي عبر العون الذاتي وبجهود التواصل مع جهات الاختصاص بالمنطقة، فاصبح اسم الحفار كلمة احتفائية يتبادل بها الشباب التهاني بين بعضهم البعض ويثمنون بها جهود بعضهم، ويحفزون بعضهم بالالتزام بتعهداتهم تجاه مؤسستهم شاكرون، متيحين ايضا مساحة مناسبة لتبادل النكتة والطرفة واخبار المنوعات المضحكة متبادلين الأمنيات الطيبة في المناسبات السعيدة والتعازي والمشاركات الوجدانية في الأتراح وعند فقدان الأقارب من أهل المدينة وكل ذلك عبر مجموعاتهم الثلاثة.
وبهذا يعتبر الحفار المعاصر أحد انتصارات الشباب العربي على الصعاب مهما عظمت، فضلا عن انه نموذجا عربيا فريدا رغم تباعد موقعه الجغرافي، ليكون من نماذج تطويع وتكييف وسائل التواصل الاجتماعي عبر الواتساب او الفيسبوك او تويتر من اجل تسخيرها للتفاكر حول الأسلوب الأمثل لايجاد الحلول الناجعة للكثير من المشكلات االخدمية في مختلف القطاعات، لتكون تلك الوسائل منابر ايجابية للمشاركة الشعبية والتعاضد والتنادي بعيدا عن بث الإشاعات والرسائل السلبية التي قد تسيء للآخرين أولهذه الوسائل المتميزة في حال أن يحسن استخدامها لمصلحة المجتمعات.