علي بن عوض الشيباني
أيها القراء الأعزاء:
روى أحمد والنسائي وابن حبان عن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(لا يزيد في العمر إلا البر ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، ووروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) أي العمل أحب إلى الله؟ فقال: الصلاة علي وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
أحب الأعمال إلي الله الصلاة فهي صلة العبد بمولاه، وبر العبد بوالديه فهما أقرب الناس إليه، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في الأرض وإيصال الحق إلى الخلق.
لا خير في حياة تخلو من البر والخير والمعروف، والإيمان هو الذي تَطِيب به الحياة لأنه يعلمنا حب الخير والبر والمعروف، فإذا ذاق الناس طعم الإيمان ترى في الحياة المودة والرحمة والإحسان، بمعرفة الله تُحفظ حقوق العباد، فالإسلام هو الذي يحفظ الحقوق لأصحاب الحقوق، فهو يحفظ حق الآباء وحق الأبناء، يحفظ حق الزوج وحق الزوجة، يحفظ حق الصغير وحق الكبير، فإذا ضاع الإسلام من حياة الأمة ضاعت معه كل الحقوق.
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)، أَمَر أمراً مقضياً أن نعبده وحده لا شريك له، فلا نرجو إلا رحمته ولا نخشى إلا عذابه، ولا يشغلنا عنه مال ولا ولد، نتعلم أمره حتي نقوم عليه، نفر من معاصيه حتى نصون أنفسنا من غضبه وعقابه، فالله أهْل لأن يُحب وأهل لأن يُطاع، هل وجدنا من ربنا غير الإحسان؟ فهل جزاء الإحسان يكون الجحود والعصيان؟ أم جزاء الإحسان هو الإحسان؟.
الحياة بلا نور الإيمان عذاب وحيرة وضياع، والمؤمن وحده هو الذي يفهم معني البر والإحسان، وكثيراً ما يأتي في مواضع من القرآن الأمر بالإحسان إلي الوالدين بعد توحيد الله والعبودية له وحده لا شريك له، فالله هو خالقنا ورازقنا وولي نعمتنا، إلهاً حكيماً وربّاً واسعاً عليماً، والوالدان هما سبب وجودنا في هذه الحياة، فالحياة بصراعها تجعل أبصار الناس مشدودة إلي الأمام وقلّما يلتفتوا إلي الأجيال السابقة المولية، هذا الجيل الذي أعطي كل ما عنده حتي جفَّ وذبل وأصابته الشيخوخة يجب أن يُعرف له حقه ولا يُنكر له جميل إحسانه وعظيم تضحياته.
فقد أعطي الآباء زهرة حياتهم وثمرة أموالهم وكدهم لأبنائهم، كم من السهر والتعب والنصب تحملوه، وهم مدفوعون إلي هذا بالفطرة، وأصبحوا كالبذرة التي أعطت غذاءها للنبتة الصاعدة.
فهذا الذي أعطي رحيق حياته ليري أولاده في أحسن حال، هل يكون جزاؤه الرحمة والإحسان أم الجحود والكفران؟ والإحسان إلي الوالدين ليس من قبيل المنّ والتفضل بل هو حق واجب فرضه الله رب العالمين وفاءً وعرفاناً لأصحاب الحق والمعروف.
والوصية بالأم خاصة لأنها ذاقت من الألم ما لم يعرفه أحد إلا الأمهات، وكانت بين الحياة والموت ليخرج الوليد إلي الحياة، (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا علي وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير)، رأي عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلاً من أهل اليمن يحمل أمه في الطواف، فقال يا ابن عمر: هذه أمي أحملها فوق ظهري أطوف بها وأطعمها وأسقيها وأقضي لها حوائجها فهل وفيت حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة من آلام وضعها، قال: ولم؟ قال: لأنها تحملت الألم ترجو حياتك وأنت تحملها تنتظر موتها.
تسعة أشهر تحمل جنينها في أحشائها كم نغَّص عليها نومها وراحتها؟ تزداد ضعفا ووهنا ليزداد الجنين قوة وبناء، وإذا خرج إلي الحياة لا قدرة له علي إطعام نفسه ولا قدماه تحملاه ليخط خطوة واحدة علي الأرض بقدميه ولا قدرة له علي الكلام ليفصح عما يريده، وإذا مرض أو تألم عكفت عليه ساهرة دموعها علي خدها ترجو شفاءه.
والسؤال: هل رأي أحد منا أمه كم عانت بسببه وهو صغير؟ هذه مرحلة من الحياة لا يعيها ولا يتذكرها الإنسان، فإذا بدأ يعقل ويفهم ربما رأي إحسان أبيه في النفقة والطعام، أما حين كان صغيراً فلم ير اليد التي كانت تحمله وتحن عليه، لم ير اليد التي كانت تطعمه وتسقيه، لهذا عظَّم الإسلام شأن الأم وأعطاها ثلاثة أضعاف البر عن الأب، فالحمد لله علي نعمة الإسلام الذي علمنا كيف نعرف الحقوق لأصحاب الحقوق، قل الحمد لله علي نعمة القرآن الذي علمنا كيف نحفظ الفضل لأهل الفضل.
حتي أن الحسن بن علي بن الحسين كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
أحلك فترات حياة الإنسان حين يبلغ من الكبر عتياً، فتضعف حواسه وتذهب قواه وهذا ما صوره القرآن في شأن الوالدين للبر بهما في تلك الفترة فقال سبحانه:(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً) عندك: أي التجأ إليك عند الكبر حينما يبيض الشعر وينحني الظهر وتبدو علامات المرض والضعف فانظر إلي هذا الكيان الذي تحمل من أجلك وأنفق عليك، فحقه الآن عليك رد الجميل وحسن المعاملة. (وقل لهما قولاً كريماً) لا غلظة فيه ولا نهر ولا قسوة، بل تلطف معهما في هذه السن وتذكر أن إحسانك لوالديك سيكون سبباً في بر أولادك بك عند كبرك، فمن بَرَّ أبويه بره أبناؤه والجزاء من جنس العمل.
شكا رجل أباه إلي النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه يريد أخذ ماله، فدعا به، فإذا شيخ كبير يتوكأ علي عصا فسأله: لماذا تريد أخذ ماله؟ فقال: يارسول الله إنه كان ضعيفاً وأنا قوي وفقيراً وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي ، واليوم أنا ضعيف وهو قوي وأنا فقير وهو غني ويبخل عليَّ بماله، فبكي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال:(ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى)، ثم قال للولد:(أنت ومالك لأبيك) ـ رواه الطبراني وابن ماجه عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وأبو يعلى عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ بألفاظ متقاربة، نعم فالولد هو كسب أبيه .
وإذا أراد الوالدان من ولدهما شيئاً لا يستطيعه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ورحم الله والدا أعان ولده علي بره، ولكن كيف يكون الرد عند العجز وعدم الاستطاعة، انظر إلي أدب القرآن في الرد:(وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً)، فلا يرد بالمنع والرفض بل بالكلمة الطيبة والوعد الصادق أملا في فضل الله وفرجه القريب فإن مع العسر يسراً.