قراءة ـ علي بن صالح السليمي:

جاءت ندوة "تطور العلوم الفقهية في عُمان.. الفقه الإسلامي والمستقبل ـ الأصول المقاصدية وفقه التوقع" والتي نظمها مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية خلال الفترة من 8 الى 11 ربيع الثاني 1430هـ، الموافق 4 الى 7 ابريل 2009م بقاعة المحاضرات بجامع السلطان قابوس الأكبر، بمشاركة علماء ومفكرين من داخل وخارج السلطنة، حيث تناولت جلسات الندوة محاور وأوراق عمل هامة.
وضمن أوراق العمل المقدمة خلال الندوة.. مداخلة بعنوان: (الأبعاد الأخلاقية والمقاصدية للنص وأثرها في تحديد الحكم الشرعي) من إعداد الأستاذ الدكتور نورالدين مختار الخادمي من جامعة الزيتونة بتونس.

ـ المقدمة:
يستهل الباحث في مقدمة بحثه بقوله: ان النص والحكم والمقاصد والأخلاق مصطلحات واردة بقوة في اللحظة الراهنة، من حيث المفهوم والعلاقة بالآخر والأثر في الغير.
منوها بأن من أبرز مفردات هذا الترابط أو التداخل والتجاذب أثر البعد الأخلاقي والمقاصدي للنص في تقرير الحكم الشرعي، وهذا يجعلنا ننطلق من محددات علمية أساسية تبين مدلول المصطلحات، وتحدد مشتملات النص لأبعاده الكثيرة، منها البعدان المذكوران الأخلاق والمقاصد. ثم يؤول بنا إلى البرهنة على النص وعلى مشتملاته وعلى تأثيره في تقرير الحكم الشرعي، وإلى تحليل هذا النص وتفكيك أبعاده واستدعاء منهج الاستقراء والاستنباط في تأصيل هذه الأبعاد وترسيخ حجيتها، وكونها جزءا من ماهية النص، وعنصرا من وحدته الشرعية واللغوية والسياقية والمناسبتية.
مشيرا الى ان من الفوائد القريبة لهذه الموضوع إبراز البعدين الأخلاقي والمقاصدي للنص، واستدعاء التعامل الموسع مع النصوص من جهة الفهم والتنزيل، ومن حيث الإحاطة بالقضايا والنوازل، ومن حيث تقرير المرجعية الجزئية والكلية، ومن شأن هذا التناول أن يوسع دائرة الاجتهاد من غير انفلات، وأن يقرر فسحة دين الله دون تضييق أو تلفيق، وأن يعيد أمر النظر الشرعي والأداء الإسلامي إلى سالف عهده وسابق حاله، كما كان عليه الأسلاف والأخلاف تحقيقا وتحريرا وتوفيقا وتنقيحا ومراعاة للمقاصد وترسيخا للأخلاق وملاحظة للفروق والتفاتا للمستثنيات وانتباها لكل ما له أثره في تقرير الحكم الشرعي وتفعيله في الواقع والحياة.
وقال: إننا نرنو في هذه الندوة إلى تحقيق المقاربة الشرعية الإسلامية، زمنا سابقا وحاضرا ولاحقا، واتجاهات ومذاهب وتيارات في الفكر والفقه والإفتاء والقضاء والاستدلال والاجتهاد، وقضايا متنوعة ومسائل مستجدة، وأحوال واقعة وأوضاع متوقعة. وكل هذا يهدف إلى استشراف المستقبل واستنهاض الهمم لخوض غمار القادم. واهتمامنا بفقه التوقع ليس بدعا من الأمر، وإنما هو عمل القدامى ولاسيما الأحناف الذي اشتهروا بذلك، وربما يكون عذرهم في ذلك بيئتهم المتحركة بقوة وحالهم المتشعب، وأهم أعمدة هذا الفقه استناده إلى فكر المقاصد وفقه المصالح، مع فقه الأدب وعلم الخلق، لما في عصرنا من إفراط في المنافع المادية والمصالح العارية عن بعدها العقدي والإيماني والتكليفي والأدبي.
وقال: أرجو أن تكون هذه المداخلة إسهاما في تدقيق ما أسند إليه، وأن تكون الندوة كلها إسهاما في تحقيق القول في فقه التوقع وعلم المقاصد وفقه الأخلاق، وأن تنهض بنقلة نوعية إلى الأمام، تشترك يها جماهير الأمة خلف علمائها المحققين، واستشرافا لغد فقهي زاهر وزاخر.

ـ تحديد النص الشرعي
وقال الباحث حول النص الشرعي بأن يُطلق في الدراسات الإسلامية على عدة معان بحسب المجال المعرفي المتخصص، وبحسب الاستعمال المتعدد لأهل العلم والفكر، ففي علم أصول الفقه الإسلامي يُطلق النص على ما يُقابل الظاهر، أو اللفظ الشرعي الذي لا يحتمل التأويل، وفي علم الفقه يُطلق النص على الدليل الشرعي الجزئي المتعلق بالحكم الفقهي الجزئي، وفي مطلق الثقافة الإسلامية ومجمل الفكر الشرعي يُطلق النص الشرعي على نص القرآن الكريم ونص السنة النبوية الشريفة، ويُطلق أحيانا على المتن العلمي والقول المذهبي وكلام الإمام، فيُقال: نص الكتاب الفقهي، ويُراد متنه،ويُقال: نص المذهب، ويُراد به قوله، وهكذا.
مؤكدا بأن النص الشرعي يُطلق ليُراد به المرجعية الشرعية الإسلامية المتمثلة في نصوص الكتاب والسنة، سواء أكان ذلك على مستوى جزئي أم على مستوى كلي، أي أن النص قد يُراد به نص جزئي ما، كنص آية قرآنية أو نص حديث نبوي، أو نص كلي ما، كقاعدة كلية أو عموم شرعي أو مقصد عام أو دليل إجمالي جامع لأدلة جزئية كثيرة، كما قد يُراد به القرآن كله، أو السنة جميعها، أو كلاهما معا، أو مجموع آيات وأحاديث يشترك فيها موضوع شرعي معين أو معنى إسلامي محدد.
مضيفا ان النص الشرعي تتعدد استعمالاته وتختلف إطلاقاته بحسب عدة اعتبارات وسياقات علمية ومنهجية وتاريخية وواقعية، وتحديد هذه الاعتبارات والسياقات مهم غاية الأهمية في تحديد معنى النص، وتحديد أبعاده وآثاره، وتقرير البناء عليه والتفريع عنه.

ـ أحوال النص الشرعي
وقال الباحث الخادمي: ان للنص الشرعي عدة أحوال تتحدد حسب وضعه في التشريع ومراد الشارع وأمر الواقع، أي أن هذه الأحوال يحددها وضع النص في التشريع، كوضعه من حيث ثبوته ووروده، أو من حيث دلالته ومعناه، كما يحددها مراد الشارع من النص، فالشارع قد يريد العموم للنص الفلاني والخصوص لغيره، وقد يريد لهذا النص بقائه ودوامه إلى يوم الدين، وقد يريد لنص آخر تحديده بزمن محدد وفترة معينة، وقد يريد لهذا النص إطلاقا وإجمالا يتحدد تفصيله وتبيينه في ضوء التغير الزماني والمكاني والاجتماعي، ويريد لنص آخر تقييده بالوسيلة والكيفية والزمن والمكان والمقدار، كما أن هذه الأحوال يحددها أمر الواقع، من حيث توجيه الشرع لمراعاة الواقع وفهمه في معالجة هذا الواقع وتوجيهه وترشيده وإصلاحه، فالواقع قد يفيد بوقوع حالة ما أو عادة معينة يُوجه إليها حكم نص شرعي مناسب لهذه الحالة، والواقع قد يفيد بانتفاء علة كانت موجودة في فعل ما، فينتفي حكم ذلك الفعل لانتفاء العلة، فتكون أحوال النص من حيث أمر الواقع دائرة بين حال التنزيل إذا وجد الموجب وقام الداعي وأعمل الشرط وانتفى المانع وزال القادح وظُن حصول مراد الشارع وجلب مصالح المكلف، وبين حال تأجيل التنزيل إلى المقام المناسب.
مضيفا بأن هذا التحديد مهم جدا ومفيد غاية الفائدة من جهة جودة الفهم والتنزيل، وإتقان الربط بين النص الشرعي والأمر الواقعي وحال المكلف، وتقرير متعدد أبعاد النص ومتنوع مكوناته وعناصره وآثاره.
وبناء على ما ذكر، أورد العلماء والأصوليون والدارسون المعاصرون عددا من أحوال أسماء النص وأنواعه وصوره في ضوء أحواله المذكورة. ومن ذلك ما أورده جمهور الأصوليين، أو من الحنفية، إزاء قضية دلالات الألفاظ على المعاني، وأقسام النص ومراتبه المتنوعة من حيث المنطوق والمفهوم والوضوح والخفاء.. وغير ذلك، فهناك النص الناسخ والنص المنسوخ، أي النص الذي يُلغي غيره أو يقيده، والنص الملغى والمتروك، ويقابل هذه النص الناسخ والمنسوخ النص المحكم الذي يبقى في حال إعماله وتنفيذه، وهناك النص العام الموجه إلى كافة المكلفين وجميع الناس، وهناك النص الخاص الموجه إلى ما دون ذلك، كمجموعة الأغنياء والنساء والمرضى والعلماء، وهناك النص المُطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وهناك النص المتواتر الذي كان رواته وناقلوه عددا كبيرا وجمهورا غفيرا، يبلغ عدد التواتر ويرتقي بالمعنى إلى مرتبة اليقين أو الظن الغالب الذي هو في معنى القطع وفي حكمه. وهناك النص الآحاد الذي يُقابل النص المتواتر من حيث قلة عدد الرواة والناقلين، الذي يفيد دلالة الظن، ويفيد ما هو فوق ذلك بحسب الدليل المُنضاف والمعضد والمساند لغيره، وهناك النص القطعي والنص الظني، وهو الحال الذي يكون فيه مدلول النص يقينا لا احتمال فيه، أو ظنا غالبا وراجحا مع احتمال خلافه اليسير الذي لا يقدح فيه ولا يمنع العمل به، وهناك النص الجزئي الذي يتعلق بحكم جزئي أو أمر فرعي، كأمر الصلاة والماء المطلق واستقبال القبلة والوقوف بعرفة.. وهناك النص الكلي الذي يدل على معنى كلي أو حكم كلي منطبق على جزئياته وثابت بطريق التتبع والاستقراء.

ـ مكونات النص الشرعي
وعن مكونات النص الشرعي قال الباحث: هي مجموع العناصر التي يتكون منها النص الشرعي، وهي أجزاء ماهيته وأركان حقيقته. وهذه المكونات هي:
ـ اللغة العربية: فالنص القرآني قد نزل وفقا لمعهود العرب في التخاطب، ولا يُفهم ولا يُعمل إلا في ضوء لغة العرب ومعهود تخاطبهم، وكذلك النص النبوي فقد ورد على نحو ذلك.
ـ القداسة والتعالي، وذلك لكونه إلهي المصدر، فهو النص الوحيد الذي يُنسب إلى الخالق سبحانه وتعالى لفظا ومعنى ـ كما هو الحال في النص القرآني ـ أو معنى لا لفظا ـ كما هو الحال في النص النبوي.
ـ المضمون الشرعي: ويشمل المضمون الحُكْمي والحِكمي والعِلّي والمقصدي والخلقي والتربوي، ومن هنا يدخل الإنسان تحته ويؤمر بأمره ويُنهى بنهيه، باعتبار أن المضمون الشرعي موجه إليه.
النص الشرعي الجزئي والكلي: ذكرت في تحديد النص الشرعي؛ أنه ـ بحسب طبيعته ـ نوعان: نص جزئي كنص آية أو نص حديث، ونص كلي كنص قاعدة عامة أو معنى كلي. وهذا التقسيم الثنائي من الأهمية بمكان، وهو مفيد غاية الإفادة من جهة تقرير المرجعية النصية بنوعيها الجزئي والكلي، ومن جهة توسيعها وجعلها تستوعب القضايا والنوازل وتستجيب للتطور الاجتماعي والحضاري، بمعالجة كل ذلك وتقديم الأحكام والحلول الشرعية المناسبة.
ومن قبيل النص الشرعي الكلي نجد القواعد الشرعية العامة، كالقواعد الفقهية، والقواعد المقاصدية، والمعاني الشرعي الثابتة بالنص والاستقراء.
ـ تحديد الحكم الشرعي
وأوضح بأن الحكم الشرعي هو ثمرة النص الشرعي، فالنص متضمن لحكمه، والحكم تعبير عن مضمون النص بأبعاده المتنوعة، أي أن الحكم تعبير عن لغة النص وعلته وحِكمته ومقصده وأخلاقيته وسموه، ولهذا أهميته الكبرى ودوره البالغ في لزوم مراعاة فهم الحكم الشرعي وتنزيله، وفقا لتوجيه النص ومضمونه الشامل لأبعاده المتنوعة، سواء على مستوى اللغة ومحتواها وأسلوبها، أو على مستوى التسبيب والتعليل والتقصيد، أو على مستوى التربية والتزكية والتأديب والحمل على أفضل الخلق وأتم الأدب، و على مستوى تحصيل الثمار وتفعيل الآثار في واقع الناس وحياتهم. وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لأصحاب النظر والاجتهاد والإفتاء والإصلاح والتوجيه والبناء الحضاري العام في ضوء منظومة النصوص والأحكام الشرعية.
ـ البعد المقاصدي للنص الشرعي وتحديده للحكم الشرعي
وعن معنى البعد المقاصدي قال الخادمي: ان البعد المقاصدي هو المعنى المتصل بمقاصد النص وغايته، أي المعنى الذي يعبر عن مضمون مقاصد الشريعة الإسلامية، ومعلوم أن النص الشرعي يتضمن مقصده وغايته، كما يتضمن معناه وحكمه. ومثال ذلك: نص الحج: {وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم}، فمقصد النص هنا هو شهود المنافع، والمقصد كذلك هو تحقيق الامتثال للأمر بالحج، وتحصيل ما يترتب على ذلك من جلب الأجر وتبرئة الذمة وغير ذلك، والمعنى المقاصدي أو البعد المقاصدي في النص الشرعي يتحدد في ضوء عدة أمور، منها صيغة النص، وطبيعته، وصلته بغيره.
مشيرا الى ان صيغة النص هي أسلوبه في بيان المقصد، ويشمل هذا الأسلوب التصريح بالمقصد أو التنبيه عليه (العبارة والإشارة)، وتقرير الاتفاق عليه أو الاختلاف فيه، كما يشمل بيان المقصد بفعل المأمور به أو بفعل المنهي عنه، فالاعتناء بصيغة النص هو أحد أهم ضروب العناية بالبعد المقاصدي له، وذلك لمكانة هذه الصيغة وضرورتها في تحديد هذا البعد وضبطه وبيان مرتبته من حيث الأهمية والقطعية واللزومية وغير ذلك.
وعن طبيعة البعد المقاصدي قال: يُراد به نوعه وحقيقته، وهل هو بعد قطعي في النص أم بعد ظني، وهل هو بعد عام وشامل أم بعد خاص ببعض الأفراد والفئات، وهل هو بعد ضروري لابد منه في قيام مصالح الدارين، أم هو حاجي يقع دون مرتبة الضروري، أم هو تحسيني يرد على سبيل التجميل والتزيين، وهل هذا البعد هو المقصد نفسه أم هو الوسيلة إليها والمقدمة إليها؟.
مؤكدا بأن العناية بطبيعة البعد المقاصدي في النص الشرعي يزيد في تجلية حقيقة هذا البعد وأثره في تحقيق مراد الشارع ومصالح الخلق، فالشارع قد حدد مراتب مراده، وأرادها على مستويات مناسبة لخلقه وأمره، فأراد للمقاصد الضرورية أن تحقق قيام الحياة والمصالح في الدارين، وأراد للمقاصد الحاجية أن ترفع الحرج وتبعد الأذى عن معاش الناس ومصائرهم، وأراد بما قصده تحسينا أن تتجمل حياة الناس وأن يكون حال عيشهم ومآلهم على أحسن الوجوه وأتمها وأبهجها وأسعدها.
مضيفا: أما صلة البعد المقاصدي للنص الشرعي بغيره من الأبعاد والمعطيات والتصرفات الشرعية، فيراد به بيانُ أوجه العلاقة بين البعد المقاصدي وغيره، وبيان أثرها في اكتمال صورة البعد المقاصدي وفي تحديده وضبطه وتحصيل آثاره ومراعاة أحوال المكلفين فيه، ففي مثال الحج يكون البعد المقاصدي المتمثل في جلب المنافع مُحددا بالأبعاد الأخرى للحج ولنصوصه، كبعد الامتثال والتقرب، وبعد الرفق والتخفيف عن الحجاج، وبعد عدم الإضرار بالأهل والأسرة، وبعد عدم الإخلال بواجب الحاج إزاء مجتمعه ودولته، ففي هذه الأبعاد المختلفة؛ لا يقتصر الحاج على مراعاة بعد وترك آخر، ولا يعول على نص واحد ويترك غيره، ولا يستدعي بعدا ويستبعد آخر، بل يفعل الحج بكل أبعاده وبموجب كافة نصوصه ومعطياته، وهذا هو معنى الحج المبرور الذي لا يخالطه إثم ولا يتلبس به الهوى ولا تحيط به الشهوات المذمومة والحظوظ المكروهة والشبهات الرذيلة.

.. وللحديث تكملة في حلقة قادمة إن شاء الله،،،