دمشق ـ " الوطن":
بألم وحرقة تحدث الإعلامي عبد الرحمن الحلبي في ندوة "كاتب وموقف" التي اقيمت مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة بدمشق عن التقدم التكنولوجي الذي تشهده البشرية والذي اجتاح مجتمعنا بشكل مشوَّه على حساب الثقافة، حيث بدأ دور القراءة والمعرفة العميقة يتراجع لمصلحة المعلومة السريعة التي يحصل عليها الإنسان من أبواب عدة مواربة أو مفتوحة، وأشار في بداية الندوة التي استضاف فيها الناقد د.جمال شحيد والمخرج السينمائي سمير ذكرى- إلى أن الكتاب الورقيّ كما يراه أصحاب الاختصاص كالموسيقى يهذب النفوس ويرتقي بالمشاعر ويضيء المساحات المعتمة في القلوب ويهيئ لقارئه بهجة صافية لا تتيحها أية وسيلة أخرى، مؤكداً أن مقياس الشعوب لا يزال يُنظَر إليه في عدد ما تنجزه هذه الأمة أو تلك من كتب وما يقرأه أبناؤها، وأسف الحلبي لأن أمة اقرأ لا تقرأ رغم أن موروثها يقول "خير جليس في الأنام كتاب" ليكون هناك فرق شاسع بيننا وبين شعوب العالم المتقدم في هذا المجال، خاصة في ظل الواقع الافتراضيّ الذي أصبحت مجتمعاتنا تعيشه، موضحاً أن هذا الواقع حسب أصحاب الاختصاص يحاكي الواقع الحقيقي من خلال عمليات الكترونية رقمية ترتبط بعالم الحاسوب والشاشات والأدوات التقنية المتقدمة والتي بمجرد الدخول إليها تنقل جسدنا ومشاعرنا إلى العالم الرقميّ من خلال صورة وحركات وأصوات لتبدو وكأنها هي الواقع اليوميّ، ولكنها ليست كذلك.
ولأن الحديث عن الثورة الرقمية التي اجتاحت العالم يستدعي بالضرورة وضعها في إطارها المعرفيّ بدأ د.شحيد حديثه عن الثورات المعرفية الكبرى التي شهدها القرن العشرون كالثورة الألسنية التي استخدمت المعطيات الرياضية في تحليل اللغات وبرمجتها، وقد أسست لعلم اللغة الحديثة والإشارات، والثورة السبرناتية التي تمتُّ بصلة إلى وسائل الإعلام والرقميات والحاسوب، والتي مهدت للكتاب الرقميّ.. وللحديث عن الكتاب الورقي الذي عرف طفرة هائلة مع المطبعة أشار د.شحيد في كلامه إلى بعض الإحصائيات التي تبيّن بشكل أو بآخر موقع الكتاب في الحضارة المعاصرة، مبيناً أن مكتبة الكونغرس وهي أكبر مكتبة في العالم فيها نحو 32 مليون كتاب، في حين تضمّ المكتبة البريطانية نحو 14 مليون كتاب، والفرنسية نحو 15 مليون كتاب، لتتسع مكتبة الإسكندرية التي دُشِّنت في العام 2002 لـ 8 ملايين كتاب، وبتعريف الكتاب الالكترونيّ (الكتاب الرقميّ) بيَّن أنه الكتاب الذي يُنشَر ويوزَّع، وهو كناية عن ملف كومبيوتر يُحمَّل ويُخزَّن ويُقرأ على شاشة لوحية، مشيراً إلى أنه وقبل إنشاء شبكة الانترنت أُطلِق عام 1971 مشروع غوتنبرغ الذي تطلّع إلى نشر كتب بطريقة رقمية، وقد وصل عددها عام 2008 إلى 25 ألف عنوان، لتنطلق بعده مشاريع أخرى في معظم البلدان الصناعية فنشأت المكتبات الرقمية وازدادت عناوين الكتب المنقولة من النصِّ الورقيّ إلى النص الشاشيّ، وراحت دور النشر الورقية تحوِّل قسماً من مطبوعاتها إلى نشر رقميّ، وبذلك تغيرت عادات القراءة مع تصاعد ثقافة الشاشة، وقد خفَّت ساعات التسمّر أمام شاشة التلفزيون عند القراء، وهذا ما دفع المختصون إلى طرح سؤال "كم كتاباً قرأتَ هذه السنة؟" لتكون النتيجة أن جيل الشباب أصبح يقرأ أقلّ، وأن ثقافته أصبحت تتمحور حول السمع والبصر، وقد بدت هذه النتيجة بالنسبة لـ د.شحيد أمراً طبيعياً لأن عاداتنا وحياتنا أصبحت تتغير في كل يوم، وتساءل "لماذا نرفض الكتاب الرقميّ وهو الكتاب الذي يمكن أن نقرأه في أي مكان؟" مؤكداً أن الخيال العنصر المهم في حياة الإنسان، الذي يوظَّف حالياً في الكتاب الرقميّ هو خيال مهم وله قيمته، خاصة وأن الرقميات في العالم أصبحت تغطي مليارات الصفحات الورقية، وبالتالي فإن هذا المخزون الهائل الذي تحفظه الرقميات مفيد جداً للبشرية وقد قدمت وفرة معرفية في القرن العشرين في كل المجالات، موضحاً أن الرقميّ يساعد على التخلص من آفة النسيان، وبالتالي فإن تخزين كل المعلومات في الكومبيوترات سيحفظ تراث البشرية بشكل أفضل مما كان عليه الأمر في السابق، خاصة وأن المخطوطات في الماضي كانت تتعرض للرطوبة والحرق والتلف، في حين أن كل ذلك لا يحصل عبر أدوات الحفظ الحديثة، مؤكداً أن البرامج الحديثة والتطور التقني يعدّ نقلة حضارية مهمة، رافضاً أن يقال أن الكومبيوتر هو الذي اجتاح الإنسان لقناعته أن الإنسان هو الذي صنع الكومبيوتر، وأي تطور طرأ عليه إنما كان بفضله، ومع هذا حذَّر د.شحيد من ظاهرة الشباب المدمنين على شاشات الكومبيوتر وبرامجه وألعابه، ورأى أن ذلك يشكل خطراً كبيراً عليهم، ولهذا دعاهم إلى تحقيق نوع من التوازن والمعايرة في حياتهم بين الكتاب الورقيّ والرقميّ لتكون كل وسيلة مكملة للأخرى، مبيناً أن الرقميات أتاحت لنا فرصة الاطلاع على كل ما هو موجود تقريباً من كتب قد لا يتوفر بعضها في المكتبة المنزلية أو الحكومية .
وبدا د.شحيد مقتنعاً بأن الكتاب الرقميّ لا يمكن أن يحلّ محل الكتاب الورقيّ، والدليل أن الكتاب الورقيّ في الدول الأوروبية الأكثر تطوراً في مجال الرقميات مازال محافظاً على مكانته ومازالت مبيعاته بخير بشهادة دور النشر الكبرى، ورأى أن هذه المجتمعات حافظت على نوع من التوازن في حياتها فلم يلهث أفرادها وراء ما هو جديد على حساب ما هو قديم، فالأوروبي لا يضيع وقته طويلاً أمام شاشة الكومبيوتر وألعابه كما يحدث عند إنساننا الذي انتقل إلى الرقميات بشكل عشوائيّ.

تطور العصر أمر حتميّ
أما المخرج السينمائي سمير ذكرى فأكثر ما يثير خوفه في زمن الثورة الرقمية اضمحلال عضلة الخيال عند إنساننا، وساءه أن الجميع اليوم يلهث وراء إجادة استخدام هذه الأداة مبتعداً عن مدى الاستفادة منها في مجال الإبداع، موضحاً أن الخيال البشريّ ما هو إلا ناتج الدماغ البشريّ الذي يراه الأقوى شرط تغذيته بالمعرفة والثقافة، فبواسطتهما يغذي الإنسان الكومبيوتر، وبهذا لم يبدُ ذكرى ضد الكتاب الرقميّ بحد ذاته، مبيناً أن المطلوب من الجيل الحاليّ أن يقرأ، والأمر لديه سيان سواء قرأ من الكتاب الورقي أو الالكتروني، وأكد أن كل التطورات الحاصلة في المجال التكنولوجي والرقميّ لا يخيف شرط أن نقوي ونصنع الإنسان القادر على الإبداع لا المتلقي فقط، والمهم برأيه ألا يكتفي الإنسان باستخدام هذه الوسائل وأن يسعى ليضيف إليها من إبداعه، عارفاً كيف يستفيد منها لخدمته، وبيّن ذكرى أن تطور العصر أمر حتميّ ويجب على الإنسان أن يساير هذا التطور حتى لا يكون خارج عصره، موضحاً أنه لا خوف على الكتاب الورقيّ في ظلّ وجود الكتاب الرقميّ لأن أي تطور لم يلغِ في أية فترة من الفترات ما سبقه من اختراعات، وبالتالي لا أحد يستطيع أن يتنكر للتطورات الرقمية والتكنولوجية الحاصلة التي خدمت الإنسان بشكل كبير، ففي مجال السينما بيّن كيف أن الجيل السينمائي الجديد انتقل إلى عصر الديجيتال الذي سهَّل له عمله في هذا المجال مختصراً الوقت والجهد. وختم ذكرى كلامه مؤكداً أن الجيل الجديد في مجتمعاتنا فقد عادة القراءة، والسؤال هو كيف نعيد هذه العادة بعد أن تعوّد على الكومبيوتر والانترنت؟ مبيناً أن هذه المسؤولية يتحملها الجميع: الأسرة، المدرسة، وكل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.