[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
” استشهد بعد معركة بطولية خاضها مع رفيقيه الشهيدين عبد الهادي الحايك وكامل العمصي في قطاع غزة يوم 9/3/1972. أبوا الاستسلام, واشتبكوا مع قوات الاحتلال إلى أن استشهد ثلاثتهم، مما دفع وزير الدفاع آنذاك "موشيه ديان" إلى الحضور, للتأكد شخصيا من استشهاد "الأسود" وقد أقضَّ مضاجعهم وأطار صوابهم.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حضرة الشهادة, لا يمكنك سوى الانحناء إجلالا لمن خاضوها دفاعا عن الارض والوطن. هؤلاء, وقفوا بشموخ في الحياة وفي الخلود. سار الوطن مكوٍّنا أصيلا في نسغ حروفهم وشرايين دمائهم. توّحدوا مع المنارات على شواطئنا الجميلة, يمسحون حلكة الليالي بوهج نور أقمارهم. صاروا اغنية الفخر والعنفوان الفلسطيني الاصيل. اينعوا خضرة ربيعية حانية. توحّدوا مع عبق نسائم البحر المتوسطي الدافيء. أنفاسهم صارت وسيلة التفاهم بين أشياء الطبيعة والإله. دمهم يظل حبرا للتخاطب الوحيد بين اسوار الوطن وغزاته. تدثروا عباءة الشهادة, مدّوها أفقا واسعا في السماء الفلسطينية الرحبة, زرعوها قصيدة عشق. نعم إنهم يجاورون الأزل.
الشهيد محمد محمود الأسود (جيفاراغزة). عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. من مواليد عام 1946 في مدينة حيفا. نزح مع عائلته إلى غزة عام 1948 بعد التطهير العرقي الصهيوني, الذي مارسته دويلة الكيان في بدايات إنشائها. بالتعاون مع المنظمات العسكرية الإرهابية الصهيونية, التي شكّلت فيما بعد "الجيش الصهيوني" عقيدة وممارسة. خرج لاجئا معدما في أسمال بالية. عانت العائلة كما معظم اللاجئين بعيد النكبة, مرارة اللجوء والجوع.سكنت مخيم الشاطىء. درس الشهيد الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس وكالة الغوث، وحاول إكمال دراسته الجامعية في مصر. ونظرا لفقرها المادي, لم تستطع عائلته تدريس ابنها! قطع الدراسة وعاد إلى القطاع, حيث عمل موظفا بسيطا. انضم جيفارا إلى حركة القوميين العرب. وبعد نكسة يونيو ومع انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 1967 عُيّن قائدا لإحدى المجموعات المقاتلة, التي نفذت عدة عمليات عسكرية بطولية ونوعية ضدو أعداء التاريخ من النازيين الجدد.
اعتقل جيفارا مرات عديدة. في آخر اعتقال له, بعد عملية عسكرية كانت مؤلمة للعدو. قام جيش الاحتلال بحملة اعتقالات واسعة, شملت أكثر من مئة فدائيّ, كان من بينهم "دوّاس بحر" (الاسم الحركي لجيفارا غزة). تم نقل جيفارا من سجن السرايا وسط القطاع إلى سجن عسقلان, الذي قال عنه موشيه ديّان "إن الخارج منه لن يكون إلا عالة على ذويه", مكث في السجن عامين ونصف, حتى إطلاق سراحه عام 1970. واصل االكفاح التحرري بعد خروجه، وقام بنشاط مكثف في إعداد المجموعات العسكرية وتدريبها وتثقيفها. تدرج عن جدارة في موقعه التنظيمي, وصولا إلى عضوية المكتب السياسي في الجبهة. ذلك كنتيجة لإبداعاته الفكرية والتنظيمية, ومهاراته الكفاحية في المجال العسكري, وتفانيه في مقارعة العدو,, وقدرته العالية على الإبداع والمبادرة, وصل أيضا إلى قيادة النضال المسلّح للجبهة في القطاع لأكثر من سنتين, أي حتى استشهاده. عاش جيفارا في أجواء من المطاردة واستشراس العدو في ملاحقته.
تميزت مرحلة قيادته للجناح العسكري في الجبهة في القطاع, بنوعية العمليات المقاومة وفعاليتها العالية, وقدرتها على الوصول إلى مواقع مفصلية مؤثرة في الجسم العسكري للعدو الصهيوني. استشهد بعد معركة بطولية خاضها مع رفيقيه الشهيدين عبد الهادي الحايك وكامل العمصي في قطاع غزة يوم 9/3/1972. أبوا الاستسلام, واشتبكوا مع قوات الاحتلال إلى أن استشهد ثلاثتهم، مما دفع وزير الدفاع آنذاك "موشيه ديان" إلى الحضور, للتأكد شخصيا من استشهاد "الأسود" وقد أقضَّ مضاجعهم وأطار صوابهم. أجبر القائد جيفارا, الكيان الصهيوني على الاعتراف أكثرة من مرة, بأن الجبهة الشعبية تحكم غزة ليلا, والإسرائيليون نهارا.
قاد "جيفارا غزّة" شخصيا, العديد من العمليات الفدائيّة ضد الجيش الصهيوني في القطاع. وصف الخبراء العسكريون العمليات العسكرية المقاومة, سواء التي شارك جيفارا فيها, أو التي أشرف عليها بما يلي: "كان النسق الثّابت لتلك العمليات هو التتالي والجرأة, المتوائمة مع الحيطة والحذر الشديد. قام بتعطيل خط سكة الحديد المار التي تمر في غزة أثناء حرب الاستنزاف".
مع تضييق الخناق واشتداد الحملات الإسرائيليّة لمحاولة اغتياله أو اعتقاله، قرر جيفارا غزّة التخفّي عن الأنظار مدّة طويلة. أرسل مستعينًا بالصليب الأحمر رسالة إلى زوجته مفادها: أنّه وصل الأردن. ذهبت زوجته بالرسالة إلى الحاكم العسكريّ الإسرائيليّ, مطالبة إياه بوقف حملات التفتيش اليوميّة بحثًا عنه. ظلّ جيفارا مختفيًا لمدة ستّة أشهر كان يتنقل فيها متنكرًا، لا يشارك في تنفيذ أية عمليات فدائيّة, لكنه يسهم في إعادة بناء خلايا التنظيم بحنكة ورويّة. كان جيفارا يتبع تكتيكا بضرورة الوجود على مقربة دائمة من العدو. مقربة يظنّ العدو معها بالبعد، فيغرق في التخبّط. نفّذ "مهندس السراديب" ما كان يقوله بحرفيّته. المخبأ الذي قضى فيه حوالي ستة أشهر, لم يكن في مزرعة أو على الحدود، بل كان بالقرب من أهم مقر أمني في وسط مدينة غزّة, مركز السرايا. خرج جيفارا ليصل إلى منزل رفيقه وصديقه رشاد مسمار مع رفيقيه الشهيدين. لم يمض وقت طويل حتى داهمت قوات الجيش الإسرائيلي المنزل. اختفى جيفارا ورفيقاه في سرداب مخصص لهذا الغرض في ساحة البيت. لم تستطع الدفعات الأولى من الجيش إيجاد الفدائيين.
استلزم الأمر استجلاب ضبّاط من سلاح الهندسة,الذين وجدوا جدارا مبنيا بلا أساسات تحت الجدار، كان جيفارا غزّة يربض مع رفيقيه، ومن تحت هذا الجدار بدأ الاشتباك مع القوة الصهيونيّة, التي كشفت المخبأ. كان ذلك في التّاسع من مارس/ آذار العام 1973 عندما استشهد جيفارا غزّة في منزل صديقه رشيد مسمار مع رفيقيه. طلب موشيه ديّان من رشيد مسمار التعرّف على الجثث. عندما أشار إلى جثّة محمد الأسود, قائلا إنّه جيفارا غزّة، دخل موشيه ديّان والضبّاط الاسرائيليون في حالة من الفرح العارم.