تتبعنا في الأعداد الماضية أوجه الصراع بين القوى الاستعمارية في منطقة الخليج، خاصة الكبرى منها والمتمثلة في كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا، ونستكمل في هذا العدد استعراض هذا التنافس والمقاومة العربية له في منطقة الخليج.
تحرير جزيرة خرج من الاستعمار الهولندي:
جزيرة خرج هي جزيرة إيرانية تقع في الركن الشمالي الشرقي للخليج العربي قبالة مدينة بوشهر الإيرانية حيث تبعد عن السواحل الإيرانية حوالي 25 كم، تتبع الجزيرة لمحافظة بوشهر وتقع إلى الشمال منها جزيرة خويرج، يبلغ عدد سكان جزيرة خرج حوالي 20,000 نسمة في الوقت الحالي.
لم يدع الشيخ مهنا بن ناصر حاكم الجزيرة الوقت يضيع منه بعدما دام الاحتلال الهولندي لجزيرة خرج عام واحد، فقام بجمع رجاله من أفراد القبائل العربية، وتوجه بهم إلى جزيرة خرج وقام بهجوم على الحامية العسكرية الهولندية وطردهم من الجزيرة، وعلى أثرها جردت شركة الهند الشرقية الهولندية حملة بحرية كبيرة وقامت بفرض حصار حول جزيرة خرج من جميع الجهات، وراحت تقصف بنيرات مدفاعها وتدمر مواقع رجال الشيخ مهنا بن ناصر ومباني الجزيرة لاعادة احتلالها من جديد.
حدث صدى كبير لهذا العدوان الهولندي على جزيرة خرج لدى القبائل العربية في سواحل الخليج العربي، والتي قامت بمهاجمة السفن الهولندية والتصدى لها في كل مكان وأصبحت المراكز التجارية الهولندية هدفاً للقبائل العربية حيثما وجدت إلى ذلك سبيلاً، ومن ثم هاجم العرب في عام 1852م، إحدى السفن التابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية بين جزيرتي قشم ولافت واستولوا عليها بعدما قتلوا رجالها ونهبوا حمولتها قاموا بإغراقها في مياه الخليج العربي، كما هاجم الشيخ عبدالله المغني حاكم جزيرة قشم ورجاله من القبائل العربية عام عام 1753م السفينة "نانسي" التابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية، وبعد الاستيلاء عليها أفرغوا حمولتها ثم أسروا بحارتها واشعلوا فيها النيران. ومن تلك الحادثة لم تستطع سفن الشركة الهولندية أن تظهر في تلك الجزيرة أو على مقربة منها.
وعندما زار المستر وود الوكيل البريطاني لشركة الهند الذي كان في ميناء ريق، جزيرة خرج في أبريل من عام 1756م، وشاهد أوضاع الهولنديين فيها، كتب تقريراً عن ذلك إلى الوكالة التجارية للشركة البريطانية في بندر عباس قال فيه:
"إن قوة الهولنديين في الجزيرة تتألف من ستين جندياً، وحوالي مائة جندي من العبيد الأفريقيين السود المسلحين بالسيوف والخناجر، بالإضافة إلى سفينة كبيرة مزودة بستة عشر مدفعاً".
ذكر مستر وود عن تجارة الهولنديين في الجزيرة:
"إن مخزن الهولنديين هناك يحتوى على السكر وقصب السكر والفلفل والتوابل والجلود والحديد والقصدير والمنسوجات، وإن الهولنديين كانوا يستعملون ثماني سفن صغيرة لصيد اللؤلؤ، ويقومون برحلات الصيد هذه بسرية تامة خوفاً من غارات العرب عليهم".
فكر الهولنديون في ترحيل العائلات العربية من الجزيرة، وجلب عائلات من المستعمرات الهولندية في الصين، كما كانوا يطمعون في الاستيلاء على ميناء ريق أيضاً. وبذلك أخذ الهولنديون بمن جلبوهم من عناصر سكانية أخرى في جزيرة خرج يمارسون الغوص على اللؤلؤ، وغير ذلك من الأعمال البحرية التي أثرت سلباً على موارد ورزق القبائل العربية في جزيرة خرج، مما دفعهم للقيام بمقاومة الاستعماري الهولندي هناك.
عرف عرب الخليج بامتلاكهم السفن وتفوقهم في شؤون الملاحة، وبذلك فإن الضربة القوية التي تلقتها شركة الهند الشرقية الهولندية في جزيرة خرج لم تأت من قبل الشركات الأوروبية المنافسة لها، وإنما جاءت تلك الضربة من القبائل العربية بزعامة الشيخ مهنا بن ناصر، الذي عرف بضرباته القوية التي أخذ يوجهها ضد الهولنديين في جزيرة خرج، بعدما نجح في طرد البريطانيين من ميناء ريق الواقع على مقربة من جزيرة خرج.
تعاظمت هجمات العرب على السفن الهولندية بعد ذلك، كما أعد الشيخ مهنا بن ناصر حملة كبيرة جمع فيها أفراداً من القبائل العربية في عام 1760م، ونقل عدداً من القوارب تحمل أكثر من مائة من رجاله المسلحين، وشنوا هجوما على مواقع الهولنديين في جزيرة خرج، ولكن مدافع الهولنديين المنصوبة في القلعة حالت دون تقدمهم، وبالتالي لم ينجح الهجوم الذي قام به الشيخ مهنا بن ناصر لتحرير الجزيرة من الاستعمار الهولندي.
لم ينسحب الشيخ مهنا بن ناصر ورجاله من جزيرة خرج، وإنما قاموا بوضع الكمائن وراء الصخور، حتى إذا ما جاءت سفن شركة الشرقية الهولندية المحملة بالبضائع هجموا عليها وقتلوا رجالها، واستولوا على ما فيها من البضائع والأموال ثم أحرقوها وأغرقوها وانسحبوا بقواربهم عائدين بالغنائم إلى ميناء ريق، وعندما وصلت أخبار تلك الحوادث إلى جاكرتا في إندونيسيا استدعت السلطات الهولندية حاكم جزيرة خرج المسيو "ورهوست" للاستفسار عما حدث، ولكن هذا الأخير خاف على مصيره فهرب إلى بندر عباس، وسلم نفسه للوكالة التجارية لشركة الهند الشرقية البريطانية، ثم غادر إلى أوروبا عن طريق بومباي، وعين المسيو "بوشمان" من أعضاء الوكالة التجارية لشركة الهند الشرقية الهولندية حاكماً على جزيرة خرج.
وقد وجد هذا الحاكم الهولندي الجديد أنه لابد من الصلح مع العرب، وخطب ودهم وشرع في إقامة علاقات طيبة مع الشيخ مهنا بن ناصر، الذي ظل يتحين الفرصة لتحرير جزيرته من الاستعمار الهولندي، وأرسل وفداً من رجاله للتباحث والتفاوض مع "بوشمان" في بعض القضايا المعلقة، وأوصاهم بأن يغتنموا فرصة وجودهم، ويفتحوا ثغرة ويهجموا على الهولنديين، ويستولوا على القلعة إذا ما ساعدتهم الظروف على ذلك، ويبدو أن "بوشمان" علم عن طريق بعض أتباعه من الجواسيس المهمة الأساسية التي جاء بها الوفد العربي، ولذا فإنه أصدر تعليماته إلى جميع الفرق العسكرية في الجزيرة بأن تستقبل رجال الشيخ مهنا بن ناصر بتظاهرة بحرية كبيرة لارهابهم، وخرج الأسطول الهولندي بكامل قطعاته، وفضلت الخطة التي وضعها الشيخ مهنا بن ناصر لتحرير الجزيرة من الاستعمار الهولندي.
خلف في حكم جزيرة خرج "المسيو فان هواننغ"، بعدما تم نقل المسيو "بوشمان" إلى منصب آخر، ولم يكن هذا الحاكم الهولندي الجديد على علم بعادات وتقاليد العرب وكيفية التعامل معهم، مما أدى إلى نفور العرب من الحكم الأجنبي الأوروبي لبلادهم، وتطور الوضع إلى قيام خلافات كبيرة بينه وبين الشيخ مهنا بن ناصر، واستغل الإيرانيون هذا الخلاف لصالحهم، وأرسلوا قوات عسكرية إلى جزيرة ريق،أسرع الهولنديون لمساعدة الإيرانيين بموجب الاتفاق والتحالف معهم، وقامت القوات الإيرانية الهولندية بهجوم مشترك على قوات الشيخ مهنا بن ناصر، الذي لجأ إلى خدعة أمام هذا الحشد الكبير من القوات، وأوصى رجاله بأن ينسحبوا من شواطئ الجزيرة، وقامت القوات الإيرانية والهولندية المشتركة بتعقبهم والتوغل إلى الداخل، حتى إذا ما فعلوا ذلك انقض عليهم رجال الشيخ مهنا بن ناصر بأسلحتهم بعيداً عن مرمى مدفعية الأسطول التي تحمى قوات المشاة، وأرغموهم على الفرار تاركين وراءهم القتلى والجرحى وبقايا من الأسلحة.
لم يكتف الشيخ مهنا بن ناصر برد الحملة الإيرانية ـ الهولندية المشتركة عن ميناء ريق وتمزيقها، بل اتجه إلى جزيرة خرج، وأنزل قواته فيها وحاصر القلعة التي تحصنت القوات الهولندية فيها، والتي لم تجد إمامها سوى الدخول في مفاوضات مع الشيخ مهنا بن ناصر، والذي قبل العرض الهولندي وتوجه مع عدد من رؤساء رجاله ودخلوا القلعة، في حين تمكن الشيخ مهنا بن ناصر من الهرب، وعاد إلى جزيرة ريق ليبدأ المقاومة من جديد ضد الاستعمار الهولندي، في حين تم إرسال الأسرى من قبل حاكم الجزيرة إلى جاكرتا.
عندما كان يقيم الشيخ مهنا بن ناصر في جزيرة خرج عام 1762م، حدث نزاع بينه وبين حاكم بوشهر، فتحالف الهولنديون مع الحاكم بالاشتراك مع الإيرانيين، وتوجهوا بقواتهم لقتال الشيخ مهنا بن ناصر، الذي استخدم ذكاءه في هذه المعركة، وأمر رجاله بألا يتعرضوا للقوات الإيرانية ـ الهولندية المشتركة في الدخول إلى أعماق الجزيرة، حتى إذا ما فعلوا ذلك وتوغلت القوات المهاجمة انقض رجاله، وهكذا فر وهرب الناجون بأنفسهم تاركين قتلاهم في أرض المعركة، ولحق الشيخ مهنا بن ناصر وقواته بالفارين المهزومين وأطبقوا عليهم، من ثم قام بهجوم كبير عام 1765م، وحاصر القلعة طويلاً قبل أن يفتحها، واستطاع الشيخ مهنا بن ناصر أن يحقق انتصاراً كبيراً ويطردهم نهائيا من الجزيرة التي عادت من جديد عربية محررة من الاستعمار الهولندي، ويقول الرحالة "بارسونز" إن الشيخ مهنا بن ناصر عندما دخل القلعة، أجبرهم على الخروج منها ومغادرتها على ظهر إحدى السفن الهولندية إلى جاكرتا، ولم يسمح لهم بأي مؤن كافية للرحلة، وقبل أن تقلع بهم تلك السفينة كان قد انتزع منها كل مدافعها وما فيها من قذائف وبارود، بالإضافة إلى حصوله على غنائم هائلة من البضائع والنقود مما يخص شركة الهند الشرقية الهولندية والممتلكات التي تخص الموظفين والخدم".

محمد بن حمد الشعيلي
أكاديمي في الجامعة العربية المفتوحة
[email protected]