للفن السابع عشاقه في ربوع السلطنة، مثلما الحال في كل جغرافيات الكوكب، وعشاق الفن السابع في عمان سوف يحرصون على متابعة عروض مهرجان مسقط السينمائي الذي يفتتح اليوم كما هو حالهم في الدورات الماضية.
لكن كيف يبدو هؤلاء وهم يتابعون عروض الأفلام المشاركة؟ الإجابة عن هذا السؤال تكشف عن مشكلة يقع فيها الكثير من عشاق السينما،اختزال ولعهم في بعض عناصرها، القصة، الحركة، الحوار! ربما الديكور إن كان ينطوي على قدر عظيم من مظاهر الفخامة كما هو حال بعض المسلسلات التركية، الطبيعة الخلابة إن كانت المشاهد تم تصويرها في الغابات أو عبر سفوح وقمم الجبال والوديان والسهول الخضراء، وماذا بعد؟ ماذا عن الموسيقى مثلا؟ من ينتبهون إلى أهميتها ويستمتعون بلغتها الموازية، بل المتداخلة، بل البديل الأكثر بلاغة للكلام قليلون، رغم أن ثمة حقيقة بسيطة لا ينبغي تغافلها، لا نجاح لفيلم بدون موسيقى.
كنت أتعايش مع هذه الحقيقة بشكل عفوي منذ أن بدأت في ارتياد دار السينما الوحيدة في قريتي وأنا في السادسة من عمري، كانت الموسيقى المصاحبة للحدث قادرة على تحويل مجرى المشاعر، البطلة يجري اختطافها، على وشك أن تقتل من جانب عصابة الأشرار، البطل يطارد العصابة، يكابد للوصول إلى مخبئهم، يفشل، ينجح، تتقاذفنا إيقاعات الموسيقى بين مشاعر الخوف والترقب والأمل، لا شيء يغطي على هديرها سوى دقات قلوبنا!.
كان هذا حالنا مع الموسيقى التصويرية في الأفلام، نتعايش مع أهميتها دون أن ندرك تلك الأهمية، تبدو وكأنها الجندي المجهول في المشروع السينمائي، وما كنا نعرف ذلك!.
ومنذ عدة أيام أدركت مدى الجور الذي يلحق بمؤلفي موسيقى الأفلام، كان ذلك خلال ندوة في جمعية نقاد السينما التي يرأسها الصديق الكاتب الأمير أباظة وهو أحد ضيوف مهرجان مسقط، موضوع الندوة مناقشة كتاب "موسيقى أفلام يوسف شاهين" ومؤلفته الدكتورة رانيا يحيى، وثمة أكثر من سبب لإحساسي بالجور الذي يعاني منه مؤلفو موسيقى الأفلام، أن الكتاب الذي كنا بصدد مناقشته، هو ثاني كتاب متخصص في موسيقى الأفلام، والكتاب الأول كان مترجما، فهل يعقل هذا؟! 116 سنة سينما، حيث آلاف الأفلام التي قدمتها السينما العربية وآلاف المقالات ومئات الكتب التي تناولتها تأريخا وتوثيقا ونقدا، وليس من بين كل هذا كتاب عربي واحد عن الموسيقى التصويرية، وانتبه!.
كل برامجنا الفنية في الفضائيات وأبواب الفن في الصحف دائما ضيوفها ممثلون وممثلات، وأحيانا مخرجون، وربما كتاب، لكن لا شيء عن مؤلفي موسيقى الأفلام، وانتبه!.
كل مهرجاناتنا السينمائية العربية تخلو من جائزة للموسيقى التصويرية، لوحت بيدي تجاه المنصة منوها إلى رغبتي في الحديث، ولم يكن لدي سؤال، بل صيحة غضب، قلت: كيف أيها الأصدقاء لا توجد جائزة للموسيقى التصويرية في مهرجاناتنا؟!.
أظنهم مثلي يشعرون بالأسى، واستكملوا حديثهم، كانوا يتحاورون حول موسيقى فيلم حدوتة مصرية للمخرج الكبير يوسف شاهين، أكابد كي تستحضر ذاكرتي شيئا من مشاهد الفيلم الذي شاهدته أكثر من مرة، وكلما حبا مشهد إلى مركز الذاكرة ينزوي سريعا أمام صوت المطرب الجميل محمد منير في مستهل الفيلم، وهو يشدو بأغنية حدوتة مصرية التي لحنها أحمد منيب:
مين اللي عاقل فينا مين مجنون
مين اللي مدبوح من الألم
مين اللي ظالم فينا مين مظلوم
مين اللي ما يعرفش غير كلمة نعم
مين اللي محنيلك خضار من فلاحين غلابه
مين اللي محنيلك عمار عمالك الطيابه
مين اللي بيبيع الضمير ويشتري ويشتري بيه الدمار
مين هو صاحب المسألة والمشكله والحكاية والقلم
رأيت كل شىء وتعبت على الحقيقة
قبلت في الطريق عيون كتير بريئه
اعرف بشر عرفوني لا لا معرفونيش قبلوني وقبلتهم
بمد ايدي لك طب ليه متقبلنيش
لا يهمني اسمك لا يهمني عنوانك
لا يهمني لونك ولا بلادك مكانك
يهمني الانسان ولو ملوش عنوان
يا ناس يا ناس يا مكبوته هي دي الحدوته
يا ناس يا ناس يا مكبوته هي دي الحدوته
حدوته مصرية.. حدوته مصرية. حدوته مصرية

وأظن أن هذا حال العواجيز مثلي، يحصد الزهايمر مشاهد الأفلام في الذاكرة، لكنه يقف عاجزا أمام صدى إيقاعات موسيقي جميل كالموسيقار جمال سلامة في موسيقاه المنسابة حينا، الهادرة أحيانا، في فيلم حدوتة مصرية.
وكما ذكرت الدكتورة رانيا يحيى في كتابها كان فيلم "مغني الجاز" عام 1927، إخراج ألن كروسلاند أول فيلم ناطق في تاريخ السينما، لكن من الذي كان ينطق؟ المؤلف الموسيقي وليس الممثلون والممثلات، حيث كانت الموسيقى مسجلة على الفيلم بينما الحوار عبارات مطبوعة.
فهل ينصف أعضاء لجان التحكيم في مهرجان مسقط في دورته هذه مؤلفي موسيقى أفلام المهرجان، ويضعون إبداعهم الموسيقي ضمن معايير الجودة عند اختيارهم أفضل الأفلام؟! لو فعلوها سوف يكون هذا فعلا محمودا وغير مسبوق ربما في مهرجاناتنا العربية.
ومن خلال متابعتي لمحتوى المؤتمر الصحفي الذي عقد مؤخرا حول مهرجان مسقط السينمائي أدرك أن رئيسه المخرج الدكتور خالد الزدجالي لديه طموحات فريدة يأمل أن تتحقق من خلال المهرجان، فهو وزملاؤه في الجمعية العمانية للسينما لا يسعون إلى تنظيم مهرجان احتفائي يستقطب نجوم السينما من هنا وهناك لتلتقط الصور وتوزع الجوائز، ويسجل في تاريخ السينما العربية أن عمان لديها مهرجان سينما، كتيبة السينمائيين تسعى إلى تأسيس صناعة سينما عمانية، وتأمل أن يستقطب المهرجان ليس فقط نجوم الفن السابع، بل أنظار واهتمام المستثمرين ليدركوا أن السينما حقل جدير بالاستثمار فيه، كتيبة السينمائيين في عمان تأمل أن يتحول المهرجان إلى حلقة عمل يحاضر فيها كبار النجوم الذين ينتمون إلى مدارس فنية مختلفة، ويقدمون خبرتهم للشباب العماني الذي اختار الفن السابع حقلا تزدهر فيه أشجار طموحهم، وللتأكيد على أن هذا ليس بالكلام الذي يلقى فقط للصحافة بدون أي رصيد في الواقع، استهلت الجمعية أنشطة المهرجان قبل افتتاحه رسميا بما يقرب من أسبوعين بحلقة عمل حاضرت ودرست وعلمت فيها إحدى نجماتنا الكبار، الفنانة نبيلة عبيد، ومعها الدكتور محمد عبدالهادي، فإن كان التثقيف والتعليم أحد أهداف مهرجان مسقط السينمائي المحورية، آمل أن يضيف الدكتور خالد الزدجالي إلى برنامج ندوات المهرجان ندوة حول أهمية الموسيقى التصويرية.

محمد القصبي