منذ فترة طويلة واسم بيرم التونسي يطنّ في ذهني كنحلة أتعبها التحليق. كلما هممت بتذوّق زجله الشعبي أقوم بتأجيل المحاولة لوقت آخر، حتى بدأ الربيع العربي ـ قبل أن يصبح خريفاـ، أيقنت بأن هذا الوقت هو وقت بيرم لا غير.. وهو بالتالي وقت الشعر الشعبي الجميل. هو الشعر الملتصق برصيف الشارع، المحاذي لرغبة الإنسان الصادقة، رغبة الحياة الكريمة والحرية والسلام، كل رغبات الحب تفوح من شعر بيرم..

طفولة المعاناة والحرمان
ولد محمود بيرم التونسي عام 1893 في مدينة الاسكندرية بمصر، وهو مصري الهوية، غير أن التونسي هو لقب أطُلق على جده الذي قدم من تونس ليعيش في الاسكندرية. عاش بيرم حياة ضنك ومعاناة شديدة. فبعد وفاة والده، تزوجت والدته من رجل يعمل في صناعة هوادج الجمال، فعمل بيرم مع زوج والدته في صناعة الهوادج حتى صدمته الأقدار بوفاة والدته. وجد نفسه بعدها مسئولا عن أخوته. فتزوج وهو في السابعة عشرة من عمره، حيث رزق بمولود أسماه محمد وبنت أسماها نعيمه. لتعود الأقدار مرة أخرى منتزعة منه زوجته بعد ست سنوات من زواجهما. فلم يجد بدا من الزواج مرة أخرى من أجل أطفاله ورعايتهم.

ميلاد جديد
كل تلك الصدمات كانت مصحوبة بحياة قاسية، قضاها ممتهنا أعمالا صعبة. حتى جاءت لحظة الميلاد الحقيقية لشاعر عظيم، حينما قام المجلس البلدي بإزالة بعض المباني من أجل توسعة العمران، فكان منزل بيرم من ضمن المنازل التي قرر المجلس البلدي إزالتها. فثارت ثائرة الشاعر وكتب قصيدة سرعان ما انتشر صداها بين الناس ونُشرت في الصحف وحفظها الناس وهي قصيدة باللغة الفصحى:
يا بائع الفجل بالمليم واحدةً
كم للعيال وكم للمجلس البلدي
كأن أمي بلَّ الله تربتها
أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواج فإنْ يوم الزفاف أتى
يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي
أو ربما وهب الرحمن لي ولداً
في بطنها يدّعيه المجلس البلدي
بعد هذه القصيدة ذاع اسم بيرم بين الناس. يقول بيرم عن هذه القصيدة في كتاب (عاصفة من الصحراء المصرية، للكاتب كمال سعد، ص 23): "لم اكتف بنشرها في الصحيفة، بل أصدرت كتيبًا يتضمنها، بعته بخمسة مليمات للنسخة الواحدة، فراج رواجًا عظيمًا وطبعت منه مائة ألف نسخة، وهكذا وجهني القدر إلى مهنة الأدب وسيلة للرزق، ثم دأبت علي إصدار كتيبات صغيرة بها مختلف الانتقادات الاجتماعية".

سنوات المنفى
اتجه بيرم إلى الأدب وتحديدا إلى كتابة شعر الزجل لقربه من الناس البسطاء، وقد أصدر صحيفة بعنوان المسلة عام 1919 غير انها توقفت بسبب نقده اللاذع للسلطان فؤاد وابنه فاروق. فقام بتغير الاسم إلى الخازوق ليعيد طباعتها من جديد، علما بأنه لم يمتلك تصريح طباعة صحيفة ولكنه تجاوز هذا الشرط بكتابة اسمه على غلاف الصحيفة وكأنها كتاب. تسببت كتاباته بنفيه إلى تونس في يوم 25 أغسطس عام 1920 بقرار من السلطات المصرية أثر مقال لاذع كتبه في زوج ابنة الملك فؤاد، ومن الطريف أن يكون المنفى هو المكان الذي بدأ فيه بيرم بالبحث عن أصوله:
الأوّله مصر، قالوا تونس ونفوني
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني
نستشف من مقطوعة بيرم السابقة أنه عانى كثيرا في تونس من جحود الأهل وتنكرهم له، وقد سافر بعدها إلى باريس التي عانى فيها الغربة والوحدة.. إن الشاعر يكتب سيرته الذاتية في قصائده الشعرية، وشاعر متمرد مثل بيرم لاشك أن الأحداث المريرة في حياته وأهمها الفقر والمنفى والغربة هي التي شكلت شخصيته المتمردة.
لم يستطع بيرم البقاء طويلا في تونس، لصعوبة الحياة وندرة فرص العمل، والخناق الذي مارسته السلطات التونسية عليه، لمعرفتها عن شغبه وقصائده الثورية، فسافر إلى فرنسا لأول مرة وهناك كتب مندهشا في طبيعة الناس ودقتهم وحبهم للعمل وحرصهم على التعليم:
الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين
معمرين الطريق داخلين على خارجين
ومنورين الظلام راكبين على ماشيين
بنات بتجري وياما للبنات أشغال
وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال
ورجال ولكن على كل الرجال أبطال
ولسه حامد وعيشة واسماعين نايمين
برغم هذه الدهشة غير أن بيرم واجه ظروفا قاسية في فرنسا، فلم يجد عملا مناسبا له، ونقتطف ما كتبه في يومياته وهي من مقالة كتبتها نهلة جمال بعنوان ذكرى وفاة "شاعر الشعب" بيرم التونسي، يقول بيرم "سعيت بنفسي إلى مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة.. وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئاً يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي".

عودته لمصر متخفيا وترحيله لفرنسا
بعد أن ذاق مرارة البعد والمنفى والحرمان، عاد بيرم إلى مصر بواسطة أوراق مزوّرة عام 1920. استطاع ان يتخفّى في مصر دون أن ترصده أعين الحكومة المصرية وقد كتب بعض قصائد الزجل ونشرها وهو في داخل مصر. ولكن هذا التخفّي لم يستمر طويلا، ففضح أمره وقامت السلطات بترحيله مرة أخرى إلى فرنسا عام 1923..
توت عنخ آمون
في مصْر كُنت المَلِك لك جيش ولك حامْيه
ودوله غير دوْلِتَكْ ما تعمل الموميه
و امّه غير أُمتك ما تزرع الباميه
ولما خشوا عليك المقبره يلاقوك
نايم مِفتّح.. ولكن في بلد عَـمْيَه
بعد تسع سنوات قضاها في فرنسا، صارع فيها الجوع والتشرد والمرض الذي أصابه جراء العمل في واحدة من شركات الصناعات الكيماوية، صدر ذات صباح إنذارا في الصحف الفرنسية بإبعاد العمّال الأجانب. فسافر بيرم من فرنسا إلى تونس ومنها إلى سوريا. وفي سوريا اشتد عليه الخناق وتم كذلك نفيه بحرا إلى شمال أفريقيا.
القارئ لسيرة بيرم سيلاحظ تخطيط القدر الدقيق لخطة رجوع بيرم إلى مصر، فحينما كان بيرم منفيا من سوريا إلى إحدى الدول الأفريقية، مرت الباخرة التي تقله بميناء بور سعيد، فتأثر بيرم كثيرا لرؤية مصر ومروره عليها كالغريب، ومن محاورةٍ عابرة مع أحد الركاب عرض عليه الأخير المساعدة للنزول بميناء بور سعيد، وهذا ما حدث تماما.. فعاد بيرم إلى معشوقته مصر واستطاع بواسطة المقربين أن يحصل على الإعفاء من الملك فاروق.
وفي عام 1954 حصل على الجنسية المصرية.. ليواصل بيرم مشوار الابداع ويلتقي بأم كلثوم بواسطة الشيخ زكريا أحمد، فيثمر هذا اللقاء عن معلقات الغناء العربي: هو صحيح الهوى غلاب، غني لي شوي شوي، أنا في انتظارك، وغيرهن من القصائد الخالدة.. وقد منحه الرئيس جمال عبدالناصر جائزة الدولة التقديرية عن جهوده في الأدب والفن عام 1960. وبعد عام من هذه التكريم توفّى بيرم التونسي..
وختاما لنقرا أجمل ما كتبه بيرم وغنته السيدة أم كلثوم..
مـكـة وفيها جبال النـور
طـلـّه علي البـيـت الـمعمور
دخـلـنا بـاب الـسـلام
غـمـر قـلـوبـنـا الـسـلام
بـعـفـو رب ٍغـفـور
فـوقـنا حـمـام الحـمى
عــدد نــجـوم الـسـمـا
طـايـر علينـا يـطـوف
ألـوف تتـابـع ألـــوف
طاير يهني الـضـيـوف
بالـعـفـو والـمرحـمـة
والـلـي نـظـم سـيـره
واحــد مـافـيـش غـيره
دعــانـى لـبــيـتـه
لـحـد باب بـيـتـه
وامـّا تـجـلالــى
بالــدمـع نـاجـيـته


المصادر: 1- المعلومات منقولة بتصرف من موقع ar.wikipedia.org

2 - جميع الأبيات الشعرية من زجل الشاعر بيرم التونسي.

حمد الخروصي
twitter@ hamed_alkharusi