الحمـد لله رب العـالمـين، والصـلاة والسلام عـلى سـيـد الخـلـق أجـمعـين، وعـلى آله وصحـبه ومـن تـبعـهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد:
فـلا زال الحـديث مـوصـولاً حـول درء المفـسـدة مـقـدم عـلى جـلب المصلحـة، وكـثرة عـدد الأمة لـتـقـوم بـعــددها الكـثير في وجـه أعـداء الإسـلام كـل شيء لأن المصلحـة العـظـمى تـقـدم عـلى جـلبها وأن دفـع المفـسـدة الصـغـرى عـمـل واجـب عـلى جـلب المصلحـة الصـغـرى.
فـلـو فـرضـنا أن المشاغـبة المـزعـومة في تعـدد الـزوجـات مفـسـدة أو أن إيـلام قـلب الـزوجـة الأولى بالضـرة الثانية مفـسـدة، لـقـدمت عـليها تلك المصالح الـراجـحة التي ذكـرنا، كما هـو معـروف في الأصـول.
فـفـداء الأســارى مصلحة راجـحة، ودفـع فـدائهـم النافـع للعـدو مفـسدة مرجـوحـة فـتقـدم المصلحـة الـراجـحة عـلى المصلحة المـرجـوحة، أما إذا تساوت المصلحة والمفـسـدة أو كانت أرجـح المصلحة كـفـداء الأسارى بسلاح يتمـكـن بسببه العـدو مـن قـتـل قــدر مـن الأسـارى أو أكـثر مـن المسلمـين، فإن المصلحـة تـلغى لكـونها غــير راجـحة.
وكـذلك العـنب يـعـصر منه الخـمـر وهي أم الخـبائـث، إلا أن مصلحـة وجـود العـنب والـزبـيـب والانـتـفـاع بهـما في أقـطار الـدنـيـا مصلحة راجـحة عـلى مفـسـدة عـصـر الـعـنب خـمـراً، فـمـنها ألـغـيـت لها تـلك المفـسـدة المـرجـوحة.
واجـتماع الـرجـال والنساء في البلـد الـواحـد قـد يـكـون سـبباً لحـصـول الـزنى إلا أن الـتـعـاون بـين المجـتـمع، مـن ذكـور وإناث مـصـلـحـة أرجـح مـن تـلك المـفـسـدة، ولـذا لـم يـقـل أحـد مـن العـلـماء إنه يجـب عـزل النساء في محـل مسـتـقـل عـن الـرجـال واخـتلاط الرجـال بالنساء، وأن يجـعـل عـليهـن حـصـن قـوي لا يمكـن الـوصـول إلـيهـن معـه، وتجـعـل المفـاتيح بـيـد أمـين معـروف بالتقى والـديانة، كما هـو مقـرر في الأصـول.
فالقـرآن الكـريـم أباح تعـدد الـزوجات، لمصـلحـة المـرأة في عـدم حـرمانها مـن الـزواج، ولمصلحـة الـرجـل بـعـدم تعـطـل منافـعه في حال قـيام الـعــذر الشـرعي بالمـرأة الـواحـدة، ولمصلحـة الأمة لـيـكـثر عـددها، فـيسـاعـدها كـثرتها مـن مـقاومة عـدوها لتكـون كلـمة الله هي العـليا، وكلمـة الـذيـن كـفـروا السـفـلى.
ولا شـك أن الطـريـق التي هـي أقـوم هي الطـريـق التي أرادها الله لـعـباده لأنه أعـلم بما يصـلح عـباده في الـدنـيـا والآخـرة، فـتـشـريـع الله هـو الـتـشريـع الـذي يـرضي الجـمـيـع، وهـو في مصلحة الجـميع، لـذا فـلا أعـدل مـن تشـريع الله سـبحانه وتعالى، ولا أصلح للـبشر جـميعا مـن ذلك.
فهـو تشـريـع حـكـيـم خـبير، لا يطـعـن فـيه إلا مـن أعـمى الله بصـيرته بظـلمات الكـفـر والجـهـل والمـكابرة، وتحـديـد الـزوجات بأربـع تحـديـد مـن حـكـيـم خـبير، وهـو أمـر وسـط بين القـلة الـمـؤديـة إلى تعـطـل بعـض مـنافـع الـرجـل، وبـين الكـثرة التي هـي مـظـنة عـدم الـقـدرة عـلى الـقـيام بـلـوازم الـزوجـية للجـميع .
ومـن هـدي القـرآن للتي هي أقـوم: مـلك الـرقـيـق المعـبر عـنه في القـرآن الكـريـم بمـلك الـيميـن في آيات كـثيرة، كـقـوله تعالى:(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا) (النساء ـ 3)، وقـوله:(الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المـؤمنـون 5 ـ 6)، وقـوله تعالى:(وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء ـ 130)، وقـوله تعـالى:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النسـاء ـ 24)، وقـوله تعـالى:(.. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الـنـور ـ 33).
ولـقـد أنـزل الله سـبحانه القـرآن الكـريـم مـرشـداً وهـادياً، إلى الطـرق المحـببة إلى الله والرسـول، فـمـن اتبـع هـداه فـقـد فـاز ورشـد، ومـن أعـرض عـنه فـقـد خـسـر خـسراناً مبيـناً.
وقـد خـاطـب الله رسـوله، بما خـصـه به عـن سـائر الناس، وهـذا مـن كـرم الله لـرسـوله الأمـين ـ عـليه أفـضـل الصلاة وأتـم التسليـم ـ إذ لما نـزل تحـديـد عـدد النساء بأربـع، كان في عـصـمة الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) تسـع نسـاء، فـقال الله مخـاطـباً إياه بقـوله سـبحانه وتعالى:(لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) (الأحـزاب ـ 52).
والله لـم يضـيـق عـلى رسـوله، بـل أكـرمه وجـعـل لنسائه خـصوصـية، عـن سـائـر نسـاء المـؤمـنـين لأن ازواجـه أمهـات المـؤمنـين، ولهـن مـن الحـرمة والكـرامة ما ليـس لسائر نـساء المـؤمـنـين ، فالرسـول خـاطـبه الله بـقـوله:(لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) (الأحـزاب ـ 52)، أي أن نسـاءك يا رسـول الله لهـن مـنـزلة فـوق مـنـزلة سـائـر نساء المـؤمـنين، إن أردت أن تـطـلـق زوجـة مـن زوجـاتك ولـم تـرغـب في بقـائها عـنـدك، وتـتـزوج امـرأة بـدلا منها، لا يمـكـن لـتلك المـنـزلة العـالية والخـصوصية بالنسبة لـنسائـك، ذلك لأن زوجـاتـك يا رسـول الله هـن أمهـات المـؤمـنين، فـلـو طـلـقـت إحـدى زوجاتـك فحـرام عـلى أي أحـد أن يتـزوجـها، لأن زوجـات الرسـول أمهات المـؤمنين، فـمـن ذا الـذي يسـتطـيـع أن يـتـزوج أمه وهـي عـليه حـرام، وقـد أباح الله لـرسـوله مـلك يمـيـنه، فاسـتثـنى مـلك يمينـه (صلى الله عـليه وسـلم) بـقـوله تعالى:(.. إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) (الأحـزاب ـ 52).
فـقال الله تبارك وتـعـالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحـزاب ـ 50)، وقال الله تبارك وتعـالى مخـاطـباً المـؤمـنين بقــوله:(وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ..) (النساء ـ 25).
.. وللحديث بقية.

ناصر بن محمد الزيدي