الباحث: رأفت حمدونة غزة ـ فلسطين
مقدمة:
لم يستسلم الأسرى الفلسطينيون رغم كل الضغوطات والعقابات والعزل الإنفرادى والمواجهات والتهديدات لسياسة إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية، التي سعت جاهدة لتحطيم إمكانيات الأسرى وقتل روح الإبداع في داخلهم، وتحويلهم إلى مجموعات يائسة وبائسة ومحبطة ونادمة، فمن مرحلة الحرمان من الورقة والقلم استطاع الأسرى بتحديهم وإصرارهم إلى تهريب أنابيب الأقلام، وطوردت هذه الأنابيب كما تطارد العبوات الناسفة، وعوقب من ضبط بحوزته أنبوباً بالزنزانة لما يقرب من الأسبوعين، أما بالنسبة للورق، فقد استخدم المعتقلون ورق لف البرتقال وورق علب اللبن، وقطع المرجرين بعد تجفيفها، وكانت الورقة تجزأ إلى أقسام مختلفة، وتوزع على مختلف أنواع المحاضرات وعلى مختلف الفئات، وكانت تستوعب الكثير من المعلومات للكتابة عليها بخط صغير جداً يكاد يرى بصعوبة.

ومن مرحلة نضالية إلى أخرى تعمدت بالكثير من الشهداء والإضرابات المفتوحة عن الطعام والخطوات النضالية، بالتوازى مع ترتيب الوضع الداخلي، وتمتين العلاقات الفصائلية، وتقوية المؤسسات الاعتقالية، وبدء تكوين اللجان لضبط الأوضاع الداخلية وتطوير الأداء النضالي، استطاع الأسرى تحقيق الكثير من الانجازات التي أجبرت إدارة مصلحة السجون للاعتراف بالكثير من حقوقهم التي راودتهم عليها، واستغلت الظروف والمتغيرات السياسية الخارجية للنيل منها.

ولقد أدرك الأسرى حجم المعركة وأهميتها، والتفتوا لمآرب أجهزة الأمن الإسرائيلية التي تخطط ليل نهار بوسائل تدميرهم، فعملت القيادات التي تقف على رأس المؤسسات الاعتقالية، واللجان العاملة في الأطر التنظيمية لتنمية الإبداع للأسرى من خلال عمليات التشجيع والتحفيز لهم، واكتشاف قدراتهم وتطويرها، وإيجاد بيئة اعتقالية ملائمة، ووضع القوانين والضوابط لحمايتها، ولتوفير وسائل الإبداع، وصياغة البرامج لتخريج الكوادر والكفاءات المبدعة، وحث الأسرى على الرياضة البدنية كونها تغذى الرياضة الفكرية والثقافية من خلال العقول السليمة في الأجسام السليمة التي تسعى طواقم إدارة السجون لتقويضها وجعلها فريسة المرض والوهن والعجز، والعمل على طباعة إنتاجات الأسرى الأدبية والثقافية من خلال التواصل مع المؤسسات التعليمية والقوى الفلسطينية ودور النشر خارج السجون والمعتقلات بتهريب الهواتف النقالة وعبر الزيارات والمحامين، في هذه الدراسة سيتناول الباحث الآليات الاعتقالية لتطوير منظومة الجوانب الإبداعية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من خلال:

1- التشجيع والتحفيز:
قامت الأطر التنظيمية واللجان الثقافية بالعناية بالمعتقلين الجدد، وفتح دورات فكرية وثقافية خاصة بأدبيات تنظيماتهم، وأنشطة أخرى مصممة لرفع القدرة التحليلية لدى الأسرى الجدد، وتعريفهم بالأوضاع الاعتقالية القائمة، والبرامج المتوفرة لخلق حياة اعتقالية فاعلة، ويطلب من الجدد بعد اتمام الدورة، الاطلاع على بعض الكتب والأعمال الثقافية، وذلك لزيادة سعة اطلاعهم ليسمح لهم بعدها بدراسة اللغات، والقيام بأي نشاط اكاديمي متاح يرغبون به، الأمر الذي يؤهلهم للمشاركة بأعمال الثقافة كالندوات والمحاضرات والكتابة في المجلات، والمساهمة في المهمات الثقافية المطلوبة من الجهات المسؤولة، هذا وتشمل السياسة الثقافية العامة عملية التطوير الفردي، فيتم تشجيع الأسرى على المشاركة في النقاشات التي تدور في الجلسات أو خارج اطارها، وتحفزهم للبوح بآرائهم وتصوراتهم، ويكلف الفرد أحياناً بكتابة ملخص عن المواضيع التي تطرح أثناء الجلسات، وبكتابة مواضيع تعنى بالشؤون السياسية المختلفة، ويتاح للفرد أيضاً القيام بإلقاء محاضرات من شأنها تنمية قدراته على صعيد السياسة والخطابة والإلقاء الجيد.

الأسير المحرر والكاتب عبد الحق شحادة ربط بين الحالة النضالية وبين إدخال المواد التعليمية والثقافية ونشوء حالة الإبداع في السجون، معتبراً أن التشجيع على الكتابة وإنشاء المجلات الأدبية التي أشرف عليها أساتذة في اللغة العربية والنقد الأدبي، تعتبر وسائل محفزة للأسرى الجدد على التطور.

أما الأسير المحرر رامي عزارة والذي اعتقل قاصراً بعمر 15 عاما وأمضى فى السجون ما يقارب من عشرة أعوام فقال: إن التنظيمات الفلسطينية منذ بداية تكوينها داخل السجون والمعتقلات سعت إلى تكوين وتطوير الجوانب الإبداعية للأسرى، فعقدت الجلسات الثقافية ذات الأبعاد المختلفة، منها ما يختص بالتوعية الأمنية وأخرى تتعلق بالجانب الإداري السلوكي داخل المعتقل أو السجن، وثالثة لها علاقة بالجانب التنظيمي والوطني، هذا بالإضافة إلى الجوانب الثقافية، كالمسابقات التي كان يصاحبها بعض الجوائز العينية المادية التحفيزية المتواضعة بالإضافة إلى الجانب المعنوي وهو الأهم.
وتقوم التنظيمات الفلسطينية في السجون بمكافأة العضو الذي يطور امكانياته وقدراته، ويقوم بدور ايجابي لصالح المجتمع الاعتقالي التنظيمي، مع أن العضو لا ينتظر الجوائز على قيامه بواجبه والرقي بذاته، والمكافأة تأخذ أشكالاً متعددة منها: التدرج في المراتب التنظيمية، والهدايا الرمزية، والحفل التكريمي على مستوى غرفة أو خلية أو أي مستوى تقره الجهات المسؤولة وفق حالة الابداع والتطور، وبيان للتنظيم على أي مستوى تحدده الجهات صاحبة المسؤولية في مثل هذه المكافأة.

2- اكتشاف قدرات الأسرى وتطويرها :
مجتمع المعتقلات مطالب وبصورة ملحة برفع مستوى المشاركة الثقافية الفاعلة، والفرصة مهيأة أمام الجميع، إلا أنه ليس من الملاحظ أن الجميع يندمجون بشكل جدي في عنفوان النشاط الثقافي، صحيح أن الناس تختلف في مدى استيعابها أو رغباتها في العمل والمشاركة، إلا انه من المفروض خلق ظروف مواتية وبصورة أفضل لتحميس الجميع على العطاء والبذل، وهنا يأتي دور اللجان المختصة بالعمل على كشف قيادات وكفاءات في مختلف المجالات، وإتاحة الفرص لها وتدريبها وتعميق تجربتها في مجال العمل السياسي والإداري.

ويرى الباحث أن عملية التصنيف مهمة داخل المعتقلات، وتأخذ الكثير من النقاش والتدريب والتوجيه والارشاد والتحفيز في هذا الجانب، ومع مرور الوقت تتم عمليات التقييم للأسرى الجدد، ويتم تحديد الميول والرغبات والطموحات لدى الأسرى، ويتم توزيعهم على دورات وجلسات عامة وخاصة، شبيهة بنظام الجامعات، مواد متطلب ومواد تخصص، المتطلب في الثقافة العامة والدينية والوطنية والقضايا الاعتقالية والحزبية، والتخصص في مجال الأمن أو الإدارة أو اللغة أو الأدب أو التعليم الاكاديمي وتخصصات في شتى المجالات .

الأسير المحرر يحيى يحيى يصف عملية اكتشاف قدرات الأسرى بعد اعتقالهم بالقول: إن مجتمع الأسرى في داخل السجون الإسرائيلية يتميز عن غيره من المجتمعات المغلقة رغم المعاناة اليومية في عدة قضايا من أهمها الجانب الإبداعي، وهناك الكثير من تلك الجوانب التي تخص الأسرى في كثير من المجالات الفكرية والأدبية المختلفة كالشعر وكتابة القصة والرواية، وأيضاً الأعمال الفنية كالتمثيل والرسم وعمل المطرزات وكذلك الجانب الرياضي، وهناك عملية إكتشاف لتلك المواهب عبر اللجنة الثقافية المختصة، وبعد ذلك يتم فرز المواهب إلى اللجان لتنمية القدرات وصقل المواهب في إطار محدد، وبعد ذلك تتم عملية التقييم والمتابعة من أجل بلوغ الأسير إلى مراتب متقدمة في تخصص معين.

مدير العلاقات العامة بجمعية الأسرى والمحررين الأسير المحرر موفق حميد يؤكد على دور الأطر التنظيمية في عملية التوعية داخل السجون من خلال إعداد غرف خاصة لمحو الأمية، وأخرى لإعداد كادر من خلال برنامج ثقافي متقدم، وتتبنى اللجنة الثقافية تطوير بعض النخب المبدعة والمتميزة من الأسرى لتأهيلها للعمل التنظيمي في مجالات متعددة، ولوحظت قدرة الأسرى المحررين في أعقاب إنهاء الكثير من الدورات خلال اعتقالهم، وذلك في ورش العمل والكلمات خلال الاستقبال أو في الاعتصامات مع الأسرى المضربين في خيام التضامن والمسيرات بعد تحررهم.

ويؤكد الباحث أن هنالك الكثير من الظواهر التقليدية خلال النقاشات، أو القاء المحاضرات ، أو السؤال في قضايا متنوعة يشار إليها بالبنان لبعض الشخصيات كمرجعيات متخصصة في السجون، فيقال فلان متخصص في القرآن والتفسير والسيرة النبوية، وغيره في التاريخ القديم والمعاصر، وتاريخ الثورات العالمية، والمستجدات السياسية والدولية، والثورات والمتغيرات العربية، وفي الفلسفة والأدب الفلسطيني والعربي والدولي وبرزت في المعتقلات المرجعيات المتخصصة من الأسرى في العلوم المختلفة عند الحاجة لسؤال، أو الحسم لقضية عند خلاف أو جدل أو نقاش.

3- إيجاد بيئة اعتقالية ووسائل إبداعية ملائمة:
أدرك الأسرى منذ السنوات الأولى للاعتقال أنه من المستحيل أن يتحقق الإبداع والتطوير لكفاءات الأسرى واستغلال سنوات الاعتقال بالنافع والمفيد إلا من خلال ايجاد بيئة اعتقالية ملائمة، بيئة مضبوطة بالأخلاق والقوانين، وموفرة للوسائل الإبداعية، في ظل محاولة الاحتلال الحيلولة بين الفلسطيني وبين التنمية الفكرية والثقافية، وكان على الفلسطيني أن يدفع ضريبة كل خطوة يخطوها إلى الأمام في هذا المجال، كما هو الحال في كل ما أنجزه الفلسطيني في معتقله، كان عليه أن يتضور جوعاً، بل ويستشهد من أجل أن يحصل على قلم أو كتاب وأن يرتقي في مستواه الثقافي.

واستطاع الأسرى الفلسطينيون بعد العديد من الإضرابات بانتزاع حقهم في اتمام مرحلة التعليم الثانوي "التوجيهي" وفقاً للنظام التعليمي خارج السجن، فنجح الآلاف منهم وحصلوا على شهادة الثانوية العامة، كما انتزعوا في أوائل التسعينيات من القرن العشرين الحق في التعليم الجامعي، كأحد انجازات اضراب الأسرى المفتوحة عن الطعام، في سبتمبر 1992 الذي شمل كافة السجون واستمر 19 يوماً ، حيث سمح لهم فقط بالانتساب عبر المراسلة للجامعة المفتوحة في اسرائيل باللغة العبرية ضمن شروط صعبة ورسوم مادية عالية كانت تتحمل نفقاتها وزارة الأسرى.

عميد الأسرى المقدسيين المحرر والمبعد لقطاع غزة فؤاد الرازم والذي أمضى في السجون واحد وثلاثين عاماً متواصلة قال: إن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وعلي الرغم من الظروف الحياتية القاسية التي يعيشونها، قد امتلكوا القدرة علي التفكير والإبداع بما لا يتصوره عقل، حتى إن السجان كان يتفاجأ من ابتكاراتهم في جميع الميادين والمستويات، فرغم قلة الإمكان إلا ان الحاجة تبقي أم الاختراع والإبداع، فأبدع الأسرى على المستوى الفكري والثقافي والإداري والتنظيمي، بالإضافة الى الإبداعات التي تتعلق بنمط الحياة اليومية ، فأصبح الأسير يعيش في واقع منظم تحكمه قوانين ولوائح تنظم حياته الإدارية والثقافية والاجتماعية ، وأهم إبداعات الاسرى على المستوى الاعتقالي هو إيجاد تفاهمات ما بين الفصائل الوطنية والإسلامية داخل سجون الاحتلال وقواعد متعارف عليها ينطلقون من خلالها في مواجهة السجان، واستخدام الإضرابات المفتوحة عن الطعام والخطوات التكتيكية لتحقيق وسائل الإبداع من إدخال الكتب ، وتقنين التفتيشات وعدم مصادرة الانتاجات الأدبية ، والتعليم الجامعي، والاستمرار في البناء الفكري والثقافي وتخريج المفكر والكاتب والروائي والشاعر والقائد من السجون، واستطاع الأسرى ان يبدعوا على مستوى الحياة اليومية سواء في مجال الفن أو اختراع أداوات ووسائل بسيطة يستطيعون العيش او التعايش بها ، فعلى مستوى التلفاز استطاع الأسرى تحويل جهاز الراديو إلي بث ذبذبات التلفاز ليلتقطها الأسرى من خلال أجهزة المذياع أو السماعات دون أن يتم التشويش علي باقي الأسرى في الغرفة ، ومن إبداعاتهم إخفاء أجهزة الهواتف المهربة في غرفهم رغم ضيق المكان ومحدوديته، والذي أصبح من أهم الأدوات في مقارعة السجان من خلال الاتصال بباقي السجون وتنسيق المواقف والتواصل مع اهالي الأسرى، كما أبدع الأسرى في التواصل ما بين السجون للتواصل والتنسيق للخطوات النضالية من خلال كبسولات صغيرة ممكن تهريبها بطرق معقدة ببلعها عند النقل للأسرى أو الحرية وتكون مكتوبة بحجم صغير، هذه المواقف الجماعية للحركة الأسيرة كانت تفاجئ السجان في كيفية التواصل والترتيب والتنسيق للخطوات الجماعية على الرغم من بعد السجون عن بعضها البعض، جميع هذه الإبداعات وغيرها بنيت على الإرادة الصلبة ، والعزيمة القوية التي تتحطهم عليها مؤامرات إدارة مصلحة السجون، من أجل أن يحيوا بعزة وكرامة داخل سجون الاحتلال.

وبين الأسير المحرر المبعد إلى قطاع غزة فهمي كنعان بعض الوسائل من أجل توفير مناخ تطويرى للأسرى في السجون منها :

1- إضراب الأسرى لفترات طويلة من اجل الدفاع عن حقوقهم وتحقيق انجازاتهم، وقد ارتقى العديد من الأسرى شهداء لكي يحققوا الانجازات لباقي الأسرى.
2- كتابة الكراسات التنظيمية والأمنية لكل فصيل وتثقيف وتوعية الأسرى الجدد على الثقافة الوطنية وثقافة الوعي الأمنى من خلال الجلسات التنظيمية ، بحيث تحولت السجون إلى جامعات تمد الشارع الفلسطيني بجيل جديد يتميز بالوعي ومعرفة تاريخه وتاريخ قضيته.
3- تنظيم دوارت أحكام تجويد وحفظ القران الكريم كاملا من قبل العديد من الأسرى.
4- عقد دورات لتعليم اللغات وخاصة اللغة العبرية امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"
5- إكمال الأسرى لتحصيلهم العلمي سواء الثانوية العامة او البكالوريوس أو الماجستير.
6- تميز الأسرى بكتابة الشعر والروايات وأدب السجون والرسم ورفد المجتمع بهذا الشعر والروايات.
7- تشكيل الأسرى لممثلين لهم للمحافظة على حقوقهم والصمود في وجه السجان وعدم النيل من كرامة الأسرى.
8- إدخال الكتب إلى السجون والتي كان لها الأثر الأكبر في إثراء الوعي عند الأسرى.
9- محاولة التغلب على مصاعب السجن عبر ابتكار أدوات كان الاحتلال يمنع دخولها للأسرى مثل الإبر التي كانت تستخدم في الخياطة والتي كان يصنعها الأسرى من الأسلاك الشائكة الموجودة حول السجن، وكذلك عمل غلايات الشاي أو المقالي من المعلبات أو علب المربى التي كان يحضرها الاسرى عن طريق المطبخ ، والسكاكين من أغطية المعلبات بثنيها وحدها كالشفرة.
10- إعمال التطريز والنحت على الأحجار وعمل المجسمات من الأغراض المتوفرة والبسيطة داخل السجن.
11- المحافظة على اللياقة البدنية وممارسة الألعاب الرياضية.
12- تنظيم احتفالات تنظيمية وتأبين للشهداء وإقامة صلاة الجمعة في ساحات السجن.
13- عمليات الهروب التي كان يقوم بها الأسرى من السجون .
14- شكل الأسرى قيادة للانتفاضات الموالية التي مر بها شعبنا وكان الأسرى أهم رافد لهذه الانتفاضات.
15- تهريب وسائل الاتصال مثل الهواتف والتواصل مع الخارج علما بان الاحتلال يحظر على الأسرى الاتصال بالخارج.

4- القوانين والضوابط لحماية بيئة الإبداع :
تؤكد الحركة الأسيرة قبل أي اعتبار على الأخلاق ، فالأخلاق في المجتمع الاعتقالى تشمل كل ميادين النشاط والعلاقات المتبادلة بين الأعضاء ، وبمفهوم الثقافة الوطنية تأتي الأخلاق نتيجة اكتساب التربية الأخلاقية ومعرفة العادات والتقاليد الثورية ، لذلك فالمجتمع الاعتقالي منظم يطالب العضو بمطالب أخلاقية معينة، والمرحلة الثانية حماية بيئة الإبداع بالقوانين والضوابط ، فالأعراف الاعتقالية العامة ضمن الميثاق الضمني الشفهي أو المكتوب بين الأسرى يجرم الأفعال المخلة بالنظام العام للمجتمع الاعتقالي، وحددت الحقوق والواجبات للأسير والضوابط التي تحكم تصرفاته والحدود والخطوط التي ينبغي عدم تخطيها ، كما أن كل لائحة اعتقالية للأطر التنظيمية شملت بنودا نصت على العقوبات وأنواعها وتدرجها لكل المخلين والمنفلشين والمؤثرين سلباً على البيئة الابداعية للحركة الأسيرة .
والنشاط الاداري يلعب دوراً مهماً في هذا الجانب كونه يكفل تنظيم الحياة حسب قوانين الدستور التنظيمي، حيث تعالج من خلاله كل المخالفات اللا مسئولة ويوقع العقاب على مخالفيها ، ولكن جوهر الحياة التنظيمية ليس العقاب، ولا فرض السلطة بل التوجيه والعمل بكافة الطرق على خلق القناعة الذاتية بالقيم التي عمادها المساواة ، والأخوة النضالية ، واحترام الآخرين وطاعة القوانين والمراتب العليا ، التى عليها ان تحترم أيضاً عناصر التنظيم وتعاملهم على أساس الأخوة التنظيمية ، لا فرض السلطة ، فلا فرض بلا قناعة وايمان وجهد مشترك، ومن أهم القوانين السلوكية التى يجب عدم مخالتفتها الالتزام بنظام الغرف كالهدوء ، فعلى الجميع التقيد بأوقات تحددها الغرفة، والجلسات التنظيمية في موعدها، والحديث بصوت منخفض لاتاحة المجال للمطالعة والتفكير والحفظ والتعلم، وسماع المذياع أو التلفاز عبر السماعات الخاصة ضمن شبكة كهربائية أعدها الأسرى بطريقة مهنية وعبقرية رائعة ، جعلت الغرفة في حال من الهدوء وتهيئة الظروف الملائمة للدراسة على مدار الساعة .
لذلك فالنشاط الإداري والقوانين واللوائح تكرس النظام في المجتمع الاعتقالي، وبهذا تنعدم الفوضى لأن عناصر التنظيم يعرفون ما لهم وما عليهم ، ولا يتدخل أحدهم إطلاقاً في شؤون غيره، ففي الغرفة الموجه هو المسؤول المباشر ويتخذ إجراءاته المقبولة من الجميع دون تدخل ولا يتصرف أحد دون مشاورته وموافقته ، لذلك تسير الحياة بنظام وهدوء.

5- صياغة البرامج لتخريج الكوادر والكفاءات المبدعة :
حقيقة لا يوجد في المعتقل جهاز ثقافي وإنما أجهزة حيث يمتلك كل فصيل ، خاصة الفصائل الكبيرة ، جهازه الخاص ، وعلى الرغم من تعدد الأجهزة إلا أنها تتوافق في الترتيب والوظيفة، وهنالك خطوط عريضة لتلك الأجهزة تتمثل بالاهتمام أولا بمحو الأمية والأمية السياسية ، والتركيز بشكل أولى ومبدئي على الطموحات التنظيمية ورؤية التنظيم للواقع ، وعلى التجارب الثورية العالمية ، ويعمل التنظيم على أن تكون الدراسة جماعية ومنظمة ، هذا بالإضافة إلى الدراسة الذاتية ، والاهتمام ببناء عناصر التنظيم على أساس الرؤية الوطنية ، لذلك تتمحور الحركة الفكرية في ثلاث محاور " معرفة الذات التى تشمل الواقع القطري كجزء من الواقع القومي وتطوره التاريخي، مركزين على البعد الوطنى لهذا التطور ومعرفة العدو التي تشمل الحركة الصهيونية وتطورها وفكرها والكيان الصهيوني بكل جوانب الحياة فيه ، والمعرفة الانسانية وهي تشمل الأفكار العالمية ، مركزين على الجانب الانساني والثوري والأدبي فيه ، بشكل لا يتناقض مع الثورة الوطنية وأسسها ، بمعنى حق القراءة والمعرفة وعدم التعارض مع البرنامج الوطنى المطروح، وتشجيع البحث والدراسة والنقاش ، بشرط الالتزام بقواعد الديمقراطية – والدراسات الخاصة الأخرى، كدراسة اللغات وأهمها العبرية والانجليزية.

الأسير المحرر محمد أبو جلالة الذي أمضى 21 عاماً متواصلة في السجون وصف عملية تأهيل وتخريج الكوادر والقيادات في السجون بالتدرج والشمولية، ليبدأ الأسير الجديد في الحركة الإسلامية بمتطلبات الكادر التنظيمي، بدءاً باللغة العربية كتابة وقراءة ونحو وصرف وبلاغة، وتصل لحد تعلم الخطابة، ثم ينتقل لتعلم تجويد وترتيل القرآن والأحكام ويصل لدرجه الإجازة ، ومن ثم يبدأ بتعلم اللغة العبرية لأهميتها ، وتلحق معها في مرحلة متقدمة اللغة الانجليزية، وتعلم فقه العبادات من صلاة وصيام وطهارة وصيام، ودراسة السيرة النبوية، والتاريخ، خاصة تاريخ القضية الفلسطينية ، والصراع العربي الإسرائيلي ، والقضايا الفكرية والحركية ، ومنطلقات الفصائل الوطنية والإسلامية مع نبذة عن قياداتها وثوابتها وأهدافها ، والتدريب على العمل الإداري ، وعملية التدرج في الهيكل التنظيمي، وممارسة العمل الحركي، بعد عملية البناء الروحي والجسدي والإيمان والوعي والثورة.

6- الرياضة البدنية:
يمكن ملاحظة النشاط الرياضي بوضوح في المعتقلات المركزية ، حيث ساحات كبيرة وفيها ملاعب كرة طائرة وسلة، فمثلما يهتم المجتمع الاعتقالي بالبناء العقلي للثوار، يهتم بنفس الدرجة بالبناء الجسدي، فالمقاتل النموذجي هو المسلح بوعي سياسي وقدرة جسدية ممكنة من تنفيذ المهام الصعبة بكفاءة عالية ، ومن جهة أخرى الجلوس لفترات طويلة والانحسار داخل الغرف يضعف الجسد ويسبب العديد من الأمراض.

العقل السليم في الجسم السليم – حكمة تبناها الأسرى في ظل الحصار الرياضي حتى تهلك أجسامهم، وتبقى عقولهم أسيرة للخلاص من الأمراض والعلاجات والجري وراء الطبيب السجان الذي لم يصرف سوى حبة الأكامول السحرية لعلاج كل الأمراض حتى المستعصية والمزمنة منها ، فناضل الأسرى لمواجهة هذا المخطط واستطاعوا أن ينالوا موافقة ساعة من السجان لممارسة ساعة رياضية صباحية للممارسة العدو "الجرى" لنصف ساعة، وما تبقى للتمارين الأخرى " تمارين سويدى " ، وشكل الأسرى لجاناً رياضية تنظم الفرق والمباريات فى ساحات السجون ومارسوا بعض الألعاب ككرة التنس واليد والسلة ونط الحبل ، خاصة في ذكرى انطلاقات الفصائل والمناسبات الوطنية ، في حين عاقبت إدارة السجون ألعاب القوى " الكراتيه وكمال الأجسام والمصارعة " وصادرت الأثقال التى صنعوها من زجاجات المياه والملح المرصوصة ، ومنعوا كرة القدم .
فضلاً عن ذلك لا يغفل العديد من المعتقلين عن ممارسة نشاط رياضي داخل غرفة الاعتقال على الرغم من أن الغرف ضيقة بالنسبة لعددهم ، ولذلك لم يسمح إلا لرياضة في حدود ممكنة ومعقولة، واهتم الأسرى بشكل كبير بلعبة الشطرنج التي تنمي الفكر وتعمل العقل ، وأتقنوها وعلموها لبعضهم ، وجرت المنافسات فيها في داخل الغرف ، وساحة المعتقل وبين الفصائل ، وأقاموا فيها المباريات في المناسبات الوطنية العامة .

7- التواصل مع الخارج:
بدد الأسرى في السجون مخططات أجهزة الأمن الاسرائيلية بعزلهم عن محيطهم الخارجي، وتجميد الزمن عند لحظة اعتقالهم ، ففي البدايات كانت أداة التواصل بين الأسرى فى السجون ، ومع ذويهم ، والمؤسسات الاعلامية والقوى والتعليمية عبر زيارات الأهالى غير المنتظمة بفعل انتهاكات الاحتلال والعقابات المستمرة ، وعبر المحامين المراقبة والمحصورة زياراتهم بعدد قليل جداً وعلى فترات متباعدة واللذين يتعرضون للمنع في مناسبات وظروف كثيرة ، وعبر الكبسولة التى تنتقل مع المنقولين والمحررين والتى لاحقت الشرطة حامليها ، وعاملتهم بالقوة وبأساليب عنيفة .
ونتيجة لتطور التقنيات ووسائل الاتصال، أصبحت رسائل المعتقلين تصل لدائرة أوسع بكثير من دائرة الأهل والأصدقاء ، عن طريق تعميم الرسائل جماهيرياً ، بحيث يتم استثمار وسائل إعلامية متطورة ، بغية إيصال مضامين الرسائل إلى مجتمع بأسره ، وربما إلى مجتمعات ، فقد استفاد المعتقلون فى الانتفاضة الأولى من " إذاعة القدس " التى تبث من الخارج ، لكى تذاع رسائلهم ويستمع اليها أكبر عدد ممكن من الناس لتحقيق جملة من الأهداف ، أهمها :
1- كسر الحصار المفروض على المعتقلين .
2- تعميم التجربة والتعبير عن مواقف وتوجيهات ، وبذلك تكون الرسالة فرصة مناسبة ، لترويج طروحات ومفاهيم الأسرى .
3- حملت الرسائل المذاعة الكثير من المعلومات والحقائق عن واقع المعتقلين الفلسطينيين والعرب.
4- قدم المعتقلون من خلال الإذاعة " هدايا معنوية " للأهل والأصدقاء في المناسبات.
5- أظهرت بعض الرسائل المذاعة جمالية أدبية ومستوى متطور لدى الأسرى ، الأمر الذى أعطى للمستمع الفلسطينى والعربى المتابع " لاذاعة القدس " فكرة عن نتاجات المعتقلين الأدبية والثقافية والسياسية.

وفي منتصف التسعينات بدأ بعض الأسرى التفكير بتهريب بعض أجهزة الهواتف النقالة إلى السجن - بطرق متعددة وإبداعية منها مراودة السجان واسقاطه – وخاصة أن الهاتف المحمول يكسر عزلتهم عن العالم الخارجي ولاسيما أن بعضهم يقضى عشرات السنين في السجون ، وأن الكثير منهم لم يحظ برؤية قريب أو الاتصال بصديق أو أخ أو أخت منذ فترات طويلة، خاصةً أن الزيارات العائلية تقتصر في أغلب الاحيان على الأقرباء من الدرجة الأولى، ويشاهد الأسرى الفلسطينيون التسهيلات التي تقدمها إدارة السجون للمعتقلين الجنائيين، حيث توفر لهم أجهزة هواتف يستطيعون من خلالها الاتصال بمن يريدون ، وسرعان ما حقق الأسرى ما حلموا به وتمكنوا من تهريب الأجهزة ، ولكن بقى ذلك على نطاق محدود وتوسع الأمر قليلاً فى العام 2000 بعد السطو المسلح على الضفة الغربية واعتقال الآلاف ، وقد أبدع الأسرى وخاصة الجدد منهم فى تهريب هذه الأجهزة لدرجة وصلت أعدادها إلى المئات ، ولربما فى مرحلة لاحقة إلى الآلاف.
وربطت الهواتف النقالة الأسرى بذويهم زمن الانتفاضة ، عندما كانوا محرومين من الزيارات جراء المنع الاسرائيلي ، وأحدث ذلك اتصالاً انسانياً واجتماعياً لأسرى أمضوا سنوات طويلة ، وما كان ممكناً الحديث معهم دون توافر هذه الأجهزة ، وأقاموا الصلات مع أسرهم وأقاربهم ومع أسرهم ومع تنظيماتهم أيضاً ، فأحدث الهاتف مشاركة اجتماعية ، فكثيراً ما شارك الأسير فى حل اشكالات العائلة ، أو ساعد على حلها ، لاسيما تعليم الأبناء ، أو تقديم العزاء او التهاني في المناسبات ، حتى في إصدار البيانات السياسية والجماهيرية في مناسبات عديدة والوصول إلى الإعلام لشرح الكثير عن أحوال الأسرى وما كان يحدث عندهم أولاً بأول.

ولم يتوقف الأمر عند حد الراديو والتلفزيون والهاتف، بل إن بعض المعتقلين دخلوا على خط الانترنت، من خلال مواقع أنشئت لهم قبل اعتقالهم، وصاروا يكتبون الرسائل، ويطلبون من الأهل نشرها عبر مواقعهم لتصل إلى الأصدقاء ويردون عليها ، لينقل الأهل إلى ابنهم المعتقل مرةً أخرى ، الردود على الرسائل وهكذا ، وحاول بعض المعتقلين استثمار الانترنت للوصول إلى أصدقاء ومعارف وربما جمعيات ومؤسسات في الخارج ، حقوقية وانسانية ، وذلك لشرح ظروف المعتقلين المأساوية ، واختراق الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لاتفاقية جنيف بخصوص الأسرى ، والحقيقة أن اختراق الحصار عن طريق الانترنت ، ولو بواسطة الأهل ، هو إبداع بحد ذاته ، وتأكيد على أن المعتقلين لا يعدمون الوسيلة لايصال أفكارهم وتوجهاتهم إلى الناس.

فى نهاية الدراسة يرى الباحث أن أهم ما حققه الأسرى بوصولهم للخارج - عبر تلك الوسائل المستجدة - هو تحدي إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية في القضايا التعليمية في أعقاب منع الثانوية العامة والجامعة المفتوحة في اسرائيل ، حيث إنهم استطاعوا التأثير على المؤسسات التعليمية في مراحل التعليم المختلفة وأخذوا الموافقات على إنشاء فروع جامعات فى السجون ، وتشكيل طواقم مشرفين ومدرسين وموجهين وإداريين والتواصل مع الجامعات في نقل الدرجات ، وكتابة الامتحانات ورفع العلامات ، والاعتراف بالشهادات من المؤسسات التعليمية والتربية والتعليم العالى الفلسطيني، وكذلك نقل معاناتهم التي وصلت في كثير من الأحيان لنقل معاناتهم بالصوت والصورة وبشكل ميداني لحظة اقتحام الأقسام ، وبذلك كشفوا زيف إدعاء إسرائيل للعالم بالالتزام بحقوق الإنسان ، واستطاعوا أيضاً التأثير على القوى الفلسطينية والمؤسسات العاملة فى مجال الثقافة والأسرى بالتوصية لطباعة عشرات انتاجات الأسرى المهمة ضمن قوائم نشر أدب السجون والكتب التوثيقية الأخرى في مجالات متعددة – كل ذلك عبر وسائل اتصال أبدعوا في استخدامها من أجل التقدم والتطور والبناء على مستوى الأفراد والجماعات.