قامت دار الأوبرا السلطانية مسقط الأسبوع الماضي باحتضان العمل الأوبرالي (روميو وجولييت) للموسيقار الايطالي فينشنزو بلليني والمبني على تراجيديا وليام شكسبير. وبالرغم من الظروف الصعبة التي تم انجاز العمل بها إلا انها اكتسبت شهرة عالمية لتكون واحدة من عيون الأوبرات الايطالية في القرن التاسع عشر.
للحدث في مسقط اعتبارات عالمية فهو يعرض لأول مرة في انتاج جديد خارج ايطاليا من قبل دار أوبرا فيرونا العريقة والتي قامت بتدشين حفل الافتتاح الرسمي لدار الأوبرا السلطانية مسقط في أكتوبر 2011م. ولمدينة فيرونا علاقة تاريخية مع (روميو وجولييت) حيث تدور وقائع القصة في هذه المدينة في العصور الوسطى.
يعد بلليني (1801 – 1835) من رواد مدرسة "البل كانتو" والتي كان اعضائها روسيني (1792 – 1868: حلاق اشبيلية) ودونيزتي (1797 –1848: عروس اللاميمور) إلا أن بلليني فاجأه الموت المبكر في سن الثالثة والثلاثين. وتعتبر مدرسة "البل كانتو" رائدة في الموسيقى الايطالية لتركيزها على جمال الصوت البشري والتركيز على الطبقات النغمية التعبيرية راسمة خطاً مغايراً للأوبرا الألمانية في ذلك العصر.
ويقول بلليني عن أهداف الأوبرا معبراً "يجب على الأوبرا أن تقود الى البكاء والشعور بالرهبة وبالرغبة في الغناء حتى الموت." هذه الطاقة الخلاقة هي التي أدت إلى وفاته المبكرة في ترجمة حقيقية لعمق الاتصال الروحي والإنساني لديه بالفنون والابداع.
وتدور أحداث الأوبرا في مدينة فيرونا خلال القرن الثالث عشر وهي قصة رومانسية وانسانية بين عائلتين متضادتين وذريتهما والتي تقود في النهاية لموت البطلين المنتمين للعائلتين المتناحرتين كضحية للانظمة الانسانية الهشة والمتصارعة حيث يمثل الموت في القرن الرومانسي عامل خلاص وعامل نقاء للتخلص من الألم المأساوي ولوحدة الحب النبيلة بقيمته السامية.
يأتي الاهتمام في بدايات القرن التاسع عشر بمسرحيات شكسبير انعكاساً للاهتمام بالقصص الاغريقية والرومانية على الاوبرا الايطالية حيث بنيت الحبكة الدرامية على الصراع بين قوتين متضادتين متمثلتين في طاقة الحياة (ايروس) وطاقة الموت والخراب (ثناتوس).
تميز عرض "روميو وجولييت" بالمزج بين الإخراج الكلاسيكي والحديث حيث تدور أحداثه في متحف للفنون التشكيلية وتخرج منه شخصيات الأوبرا من اللوحات المعروضة في فكرة إبداعية جديدة أبهرت الحضور وكسرت حالة الجمود المسرحي مضيفة بعداً سينمائيا حديثاً على العمل.
تتدفق موسيقى بلليني بانسياب رائع فهو الموسيقار الذي وصفه فيردي بأنه الأكثر ابداعاً في كتابه الألحان النغمية الطويلة والتي تبدو جلياً في انشودة جولييت "ليسعدني أن أتألق" في الفصل الأول حيث تعبر "جولييت" عن قلقها لفقدان "روميو" وتنتظر عودته بحب وشوق جارف.
ترسم مقدمة الأغنية لهفة المحبة عن طريق البوق الفرنسي تصاحبها الوتريات في نغمة هابطة معبرة عن الحزن والقلق. ونشعر بألم المحبة في المصاحبة الرومانسية لغنائها على آلة القيثارة مجسدة بكاء الشخصية ولوعتها واشتياقها بتنهدات موسيقية من ملحن بارع وفنان عالي الحس يرسم بنغماته ألواناً من الجمال واللهفة والحب.
تمنحُنا أوبرا بلليني طاقات متقدة من العواطف تؤديها شخصيات متناقضة ومتصارعة من بداية الغرام الرومانسي في المشهد الأول ووصولاً إلى النهاية الفجائعية للمشهد الأخير حيث يموت العاشقان في احضان بعضهما البعض بعد أن ينشد روميو أغنيته الحزينة "هاهو القبر" متنبئاً بحتفه حيث يمثل الموت الخلاص الانساني الوحيد الذي لا مفر له من أجل غسل ذنوبه كضحية للعنف البشري البغيض ونزعته العدوانية.
غاب بلليني في عنفوان شبابه وقمة عطائه وبقت موسيقاه خالدة تُفجّر الأحاسيس والقيم وتلهم القلوب إيماناً بالقدر الذي لا مفر منه. انه القدر الذي عبر عنه فيردي في تراجيدية "ريجولتو" حيث تصب اللعنه على الأحدب عندما يقوم ـ بغرض الانتقام من سيدة ـ بقتل ابنته الوحيدة. ومن هنا تعود الاوبرا في العصر الرومانسي للتركيز على مبادئ القيم الإنسانية النبيلة كالحب والتضحية والتسامح وتنبذ قوى العنف والثأر والانتقام.
كالعادة لكافة عروض الأوبرا في الدار، قامت دائرة التعليم والتواصل المجتمعي بتقديم محاضرة سبقت العروض الثلاثة والتي حضرها العشرات من عشاق هذا الفن الرفيع وتعرفوا على شرح مفصل عن القصة والتاريخ الموسيقي للعمل بمشاركة مخرج العرض والمؤدية لدور "جولييت".

د. ناصر بن حمد الطائي