[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
يتجدد الخلاف حول من يشغل مقعد سوريا في جامعة الدول العربية بين أعضاء الجامعة العتيدة قبيل القمة التي ستنطلق أعمالها في الكويت غدًا الثلاثاء وبعد غد الأربعاء، في صورة نمطية معادة ومكررة لذلك الخلاف الذي حصل أثناء انعقاد القمة الماضية في الدوحة والصراع بين الأجنحة الداعمة لعصابات الإرهاب في سوريا، حيث حاول كل جناح فرض إرادته لشغل المقعد بواجهة للعصابة الإرهابية التي يدعمها لقتل الشعب السوري.
وعلى الرغم من التطورات السياسية والتغييرات في مراكز القوة التي يشهدها العالم أجمع والمنطقة على وجه الخصوص فإن جامعة الدول العربية العتيدة تصر على عهدها القديم، والمضي في مراكمة الأخطاء، ولا تريد أن تتوقف في خط سيرها ولو للحظة لالتقاط الأنفاس لتنظر وراءها وما خلفته من أخطاء كارثية ومن ثم التأني والتفكر في نتائج ألسنة الحرائق المشتعلة وأعمدة الدخان المتصاعدة، والعواقب من الإصرار على السير في طريق تقديم الغطاء السياسي للمؤامرات التي تستهدف أعضاءها.
المشكلة أن الجامعة العتيدة بمنحها مقعد سوريا إلى ما يسمى "الائتلاف" لا تزال تعيش الدور متوهمةً أنها ذات دور سيادي مستقل، قادرة على اجتراح المعجزات والحلول، وليست مجرد صنيعة للاستعمار البريطاني، متناسيةً أنها لا تزال تتلقى الأوامر والتوجيهات من القوى الامبريالية الاستعمارية الغربية، ولا تجرؤ على اتخاذ أي مواقف تصون المصالح العربية ترى فيها القوى الغربية إضرارًا بمصالحها والأمثلة على ذلك كثيرة، ومتناسيةً أيضًا أن النجاح يقاس بالنتائج والإنجاز. ولعل القضية الفلسطينية التي عدتها جامعة الدول العربية قضيتها المركزية أبرز مثال ودليل على ذلك، ويتأكد فشل الجامعة في اختبار القضية من حيث إن قيام الجامعة (1945م) سابق على النكبة الفلسطينية (عام 1948م)، فطوال تلك العقود وإلى الآن تتوالى على الشعب الفلسطيني النكبات ولا تملك جامعة الدول العربية حلًّا سوى عبارات الشجب والإدانة والاستنكار، بل إنه في تاريخ المنظمات والمؤسسات الدولية تملك الجامعة رصيدًا وتاريخًا في الشجب والاستنكار لا ينافسها فيه أو يسبقها إليه أحد.
إن من يفرط في قضاياه المصيرية والمركزية أو يبقى عاجزًا أمامها، من السهل عليه أن يفرط في قضايا أخرى وإن كانت لا تقل أهمية، وليس مبالغة القول إن دور جامعة الدول العربية ومواقفها من القضية الفلسطينية قاد إلى انفراط متتالٍ لحبات العقد ولا يزال يقود إلى ذلك وخاصة في ظل مؤامرة "الربيع العربي"، حيث ركبت الجامعة موجة الأحداث، وبدل أن تكون الداعم بالفكر والمنطق والعقل وبأساليب الحكمة والرشد وتوعية الناس وقيادتهم بما يحافظ على سيادة القطر العربي ووحدة ترابه ويصون نسيجه الاجتماعي من التمزق والفتن، اتجهت إلى تسوُّل حلف شمال الأطلسي للتدخل العسكري المباشر ضد ليبيا ليلقي عليها حمم قنابله مدمِّرًا بناها التحتية وموقعًا آلاف الضحايا من الشعب الليبي، لتتحول ليبيا إلى دولة فاشلة على النحو الذي يراه الجميع الآن. ولما استطاب للجامعة العتيدة هذا العمل العسكري أرادت تكراره في سوريا لولا الفيتو المزدوج الروسي ـ الصيني في مجلس الأمن الدولي، فلجأت إلى قرارات ستظل وصمة عار على جبين الجامعة، بالتساوق مع القوى الغربية الامبريالية الاستعمارية وفرض عقوبات اقتصادية ظالمة على الشعب السوري، وتجميد عضوية سوريا ومطالبة أعضائها بتسليح العصابات الإرهابية كل حسب قدرته، ودعت إلى فتح الحدود وتجنيد الإرهابيين والمرتزقة والتكفيريين والظلاميين تحت شعارات ما أنزل الله بها من سلطان كـ"مساعدة الشعب السوري"، والعودة مجددًا إلى الأمم المتحدة تارة إلى مجلس أمنها وتارة أخرى إلى جمعيتها العامة لاستصدار قرارات تحت الفصل السابع ضد سوريا. ونتيجة مباشرة لكل تلك المواقف والخطوات تكونت بيئة خصبة للإرهاب والفوضى في سوريا ولبنان والعراق وتركيا والأردن وليبيا وتونس ومصر وغيرها تهدد أمن المنطقة والعالم أجمع، فظهرت مسميات "النصرة" و"داعش" و"الجبهة الإسلامية" و"فيلق الشام" و"الجيش الحر"، أُغْدِقت بالأموال والسلاح والتدريب لتدمير البنية التحتية السورية وإبادة الشعب السوري، وبالتوازي معها كواجهة سياسية جلب من عاشوا في كنف الاستخبارات الغربية (الأوروبية والأميركية أعني) وتدربوا على أساليبها وفنونها وتم تجميعهم تارة باسم المجلس الوطني (مجلس اسطنبول) وتارة أخرى باسم "الائتلاف" وكل فرد فيه ولاؤه لمن جاء به وأغدق عليه، وذلك بهدف دفن المعارضة الوطنية السورية في الداخل التي باتت واضحة مخاوف القوى الغربية الاستعمارية والقوى الذيلية والعميلة المكونة لمعسكر المؤامرة على سوريا من مواقفها وأدوارها التي قد لا تخدم مشروع معسكر المؤامرة.
نعم، يعد منح جامعة الدول العربية لما يسمى "الائتلاف" مقعد سوريا الدولة المؤسسة ذات السيادة والحكومة الشرعية في منظورها نجاحًا كنجاحها فيما يتعلق بالطفولة وتحديد النسل وخفض عدد السكان لكي تكون كل دولة عربية ديموغرافيًّا مساوية أو أقل من كيان الاحتلال الصهيوني، ونجاحها في صياغة المناهج الدراسية ونوع التعليم والبعد بها عن تخريج أجيال مسلحة بمختلف العلوم وقادرة على الابتكار والاختراع، والبعد بها عن الآيات التي تتحدث عن مكايد بني إسرائيل وعداواتهم وعن آيات الجهاد، وحصرها في العلاقات الإنسانية والعلاقات الزوجية بين الإنسان والحيوان والنبات، والغرس في أذهان الناشئة بأن المستعمرة الكبرى المسماة "إسرائيل" هي دولة صديقة وقوية عسكريًّا وعلميًّا. وغيرها من المجالات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية التي ترى فيها جامعة العرب نجاحًا لها، دون أن تدرك أن الإتيان بعملاء استخبارات دول غربية استعمارية لشغل مقعد دولة عربية مؤسسة ومستهدفة بالمؤامرات والعدوان يشكل سابقة في تاريخها، إذ بذلك تشرع لتلك المعارضات الموجودة في لندن وباريس وواشنطن ونيويورك وبرلين وغيرها بأن تشغل مقاعد بقية الدول العربية الأعضاء في الجامعة.
إن جامعة الدول العربية تصر على سلوك طريق فشل قممها، وتُكدِّس أسباب النزاعات والمشاكل البينية، فيما يفرض الميدان السوري ذاته مواصلًا تفنيد الحق من الباطل، ولسان حال سوريا وشعبها وجيشها يقول لجامعة العرب: خذوا المقعد، ولكن لا قيمة ولا وزن له إلا بصاحبه الشرعي، فشتان بين من يجلس عليه مطالبًا بنصرة الشعب الفلسطيني ووحدة الصف العربي ويرفض الخنوع والذل والتبعية، ومحاربة الإرهاب، وبين من سيجلس عليه غدًا مدافعًا عن الإرهاب ومطالبًا بالسلاح النوعي لقتل الشعب السوري وتدمير دولته، متاجرًا في مقابل ذلك بمأساة الشعب السوري ليتخفى وراءها وتتخفى معه العمالة والبيع الرخيص للأوطان وتسليم الجولان لمحتله. سيظل الهزيل هزيلًا وإن علا شأنه بين أسياده، والوطني وطنيًّا وإن تكالبت عليه محن الزمان.