بين عمان والبصرة
أطلقت تسمية "بيضة الإسلام" على "نزوى" لعوامل كثيرة جدًّا كونت تاريخ هذه المدينة الموغِلة في العَراقة، وأَذِنتْ لها بثِقْلٍ علمي ثقافي امتدَّ عبْرَ التاريخ مستصحِبًا معه مركزية إدارية واقتصادية في آنٍ.


كانت نزوى حين كانت عمان، وكانت (مجان) يوم عَمَرَ السومريون النازحون من بلاد الرافدين هذ الأرضَ الطيبةَ يستخرجون منها أول ما عرف الإنسان من النحاس قبل ستة آلاف سنة من زمان الناس هذا، وبانقراضهم حلَّ الكلدانيون، ثم قوم عاد، ثم الفينيقيون، ثم الآشوريون، فالبابليون، ومن بعدهم جاء الفنجديهيون.
كان الفينيقيون – ومن بعدهم الآشوريون – أول من اهتم بالموقع الاستراتيجي لعمان وإطلالتها على خليج عمان وبحر العرب؛ فتوسعوا في إنشاء الموانئ والسفن في صور عمان وغيرها، وما تسمية (صور الشام) إلا أثرٌ لارتحال قديم صحب معه الاسم من عمان إلى الشام، وسيصحب العمانيون بعد ذلك بألف عام تامة شيئًا من أسماء بقاعهم للبصرة، فيسمى درب منها بدرب الجوف، تسمية تذكرهم وتربطهم بجوف عمان، وهو الأرض من إزكي إلى بهلا، وخلافه السر، وهو أرض الظاهرة.
مرت قرون متطاولة قبل أن يطأ العرب الأقدمون أرض عمان. قيل: كان أولهم عُمَانَ بنَ قحطانَ بنِ نبيِّ الله هودٍ، وبه سُمِّيتْ؛ حيث استولى عليها لأخيه يعرب بن قحطان، وقيل في تسميتها غير هذا. جاء فيما بعد "قوم طسم، ثم قوم جديس، ثم العرب بقيادة عرمان بن عمرو الأزدي... ثم جاء الفرس الأواخر، ثم جاء العرب بقيادة مالك بن فهد الأزدي، واستمروا بها إلى اليوم".
وإذا كانت صحار قديمًا قصبة عمان الاقتصادية ومرفأ التجارة الأشهر فيها؛ فإن (نزوى) كانت منذ القِدم مركزَ الثِّقْلِ الداخلي، وبقعةَ نور العلم، ومنبت علماء المذهب وأئمته،هي تخت الإسلام وبيضته، هي أرض أناس عكفوا على الفقه والعلم والدين، فيها كانت تعقد الإمامة، ومنها كان الحكم، وإليها كان يرجع أمر عمان.
في الشمال الشرقي، على الجانب الآخر من بحر عمان، مصَّر عمرُ بن الخطاب (البصرةَ سنة أربعة عشرة للهجرة، وبُني فيها، من بعد، سبعُ دساكر، كان نصيب الأزد منها ثلاثًا، وهو نحو النصف من البصرة.
كان للعمانيين كثير خبرة وسابق معرفة بأرض الرافدين؛ نظرًا للقرب الجغرافي، والتواصل التجاري عبر طريق الحرير البحري الرابط بين الصين في الشرق الأقصى والجزيرة العربية، والنافذ عبر الخليج إلى بحر القلزم (البحر الأحمر) ومنه شمالاً إلى بحر الروم (البحر المتوسط) مرورًا بسواحل عمان فاليمن وصولاً إلى مصر ومنها إلى أوربا. كان هذا الطريق موضع اهتمام الجغرافيين والرحالة عبر العصور.
كان اللؤلؤ العماني المعروف بالتوأم يتخذ طريقه من صحار إلى بغداد والبصرة، وكذا كانت الأزياء النزوية. ثم كانت الموانئ العمانية وعلى رأسها ميناء صحار تعج بالتمور، والعطور، وآلات الصيدلة، والديباج، والحديد، والنحاس، والفلفل، والصندل، والبللور، والعاج، والحرير، والذهب، واللآلئ، ...، وغير ذلك من البضائع التي تسافر بين الشرق (الصين والهند وغيرها)، والغرب (جزيرة العرب ومصر والشام وأوروبا) مارَّة ببغداد والبصرة وغيرها من أرض الرافدين ثم موانئ عمان. كانت عمانُ كورةً عربيةً خالصة تحت البصرة وبغداد الموارتين بصنوف الأجناس والألوان من البشر والمذاهب والأفكار.
في البصرة كان للعمانيين- منذ نشأتها - مكانةٌ عدديَّةٌ واجتماعية كبيرة. أمَّا مكانتهم العددية؛ فتظهر من استحواذهم على ثلاث دساكر للسكنى من أصل سبعة بالبصرة، وخروجِ ثلاثةِ آلافِ مقاتلٍ أزديٍّ دفعةً واحدةً بصحبة عثمان بن أبي العاص لقتال الفرس بقيادة (شهرك) الذي قتله جابرُ بنُ حديدٍ اليَحمَدِيُّ. وأما مكانتهم الاجتماعية؛ فمنهم اختار عمر بن الخطاب أوَّلَ قاضٍ على البصرة.
نزح إلى البصرة بُعيْدَ تمصيرها عدد كبير من الصحابة والتابعين؛ فخرج إليها من العمانيين كثير من أهل العلم وطلابه؛ فشافهوا الصحابة والتابعين، واستقوا علمًا رقراقًا صافيًا من ينابيع ثرة لم تكدرها دلاء المذهبيات ولا الصراعات الكلامية، وكونوا جسر تبادل علمي ثقافي بين البصرة وعمان، ولاسيما بيضة الإسلام (نزوى).
سعى هذا البحث نحو تتبع آثار تبادل ثقافي قام بين البصرة وأزد عمان في القرون الأربعة الأول من الإسلام؛ حيث رصد البحث رواة عمانيين؛ كان الحديث عماد اهتمامهم العلمي، ثم رصد تكون مدرسة أخرى كانت العربية ملاك أمرها، وكان أصلها الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي العماني الأصل، ومنها تفرع المبرد، وابن دريد، وغيرهما.
ثم كان أبرز نموذج وأوضحه لهذا التبادل الثقافي بين نزوى تحديدا والبصرة، فتتبعه البحث ووقف مطولا عنده، إنه الإمام أبو الشعثاء جابر بن زيد الذي ولد في فرق بنزوى، ونشأ فيها وحصل أوليات علمه، حتى ارتحل إلى البصرة بعد تمصيرها بقليل، فأخذ فيها العلم عن عدد كبير جدًّا من الصحابة، البدريين وغير البدريين، فحوى علمهم أجمع، ولزم ابن عباس( فكان طريقًا موثقة لمروياته في التفسير والفقه.
وقف البحث عند هذا التابعي العالم الرباني الزاهد الورع الفقيه المفسر المحدِّث؛ ليسبر أغوار تكونه العلمي في البصرة وغيرها، ويتتبع ثمرة علمه من طلابه الذين رووا عنه، ومصنفاته التي لم يصلنا منها إلا القليل.
المبحث الأول
جسور الثقافة بين عمان والبصرة
أ‌- رواة الحديث العمانيون:
بدأ تكون المدرسة العمانية في رواية الحديث منذ نأنأة الإسلام الأولى بما رواه غير واحد من الصحابة الأزديين العمانيين من أحاديث النبي ( ، يأتي على رأس هؤلاء جميعًا الصحابي مازن بن غضوبة الذي دعا له النبي (، ومن بعده يناق العماني الذي نقل الإمام مالك بعض حديثه، ثم جاء أبو الشعثاء جابر بن زيد الذي دون أول مصنف كبير في الإسلام ، وحوى علم سبعين بدريًّا، ونقل أكثر ما نقل عن الحبر البحر ابن عباس ( ، ثم روى عنه جمع غفير ممن أتو بعده حتى يلمح المرء ما يشبه مدرسة رواية للحديث عمانية، تكونت من هؤلاء في القرون الأربعة الأول من الإسلام.
1ـ أبو هارون الغطريف العماني:
روى الغطريف العماني عن أبي الشعثاء؛ ما يعني أنه لقيه في البصرة، وروى عنه الحكم ابن أبان العدني. أخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء: "أخبرنا الأَبَرْقُوهِيُّ: أخبرنا أكمل العلوي، أخبرنا سعيد بن البناء، أخبرنا محمد بن محمد، أخبرنا محمد بن زنبور، أخبرنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا عبدالرحمن بن بشر، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثني الحكم بن أبان، حدثني أبو هارون العماني، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس ، عن رسول الله قال: "إن جبريل حدثه، قال: إن الله قضى، أو إن الله قال: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة، فيقضى بعضها من بعض، فإن بقيت حسنة، وسع له الجنة ما شاء".
2ـ الحسن بن هاديةَ العماني:
روى عن عبد الله بن عمر (، وروى عنه الزبيربن الخريت البصري في فضل الحج. أخرج البخاري في تاريخه بسنده عن جرير بن حازم، عن الحسن بن هادية العماني، قال: "لقيت ابن عمر( قال: إني لأعلم أرضًا ينضح بجانبها البحر، الحجة منها أفضل من حجتين من غيرها، وذكر عمان".
3ـ داود بن عفان العماني :
روى عن أنس بن مالك (، وروى عنه عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي.
4ـ محمد بن صالح بن سهل العماني:
روى عن محمد بن إسحاق الفاكهي المكي، وروى عنه أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي.
5 ـ يعقوب بن غيلان العُمَاني:
حدَّث َفي البصرة عن سعيد بن عروة الربعي البصري، وعن محمد بن الصباح الجرجرائي، ومحمد بن العلاء أبي كريب الهمداني.روى عنه بالبصرة أبو القاسم الطبراني في الصغير،قال: "حدَّثَنا يعقوب بن غيلانَ العُمَانِيُّ، بالبصرة , حدَّثَنا سعيدُ بنُ عروةَ الرَّبَعِيُّ البصريُّ، حدَّثَنا هشيمٌ، حدَّثَنا إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: أتيت رسول الله (وهو يصلِّي بأصحابه المغرب , فسمعتُه وهو يقول: "مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ":[الطور: 8] , وقد خرج صوته من المسجد "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ"[الطور: 8] , فكأنَّما صدع قلبي"، وروى عنه يوسف بن يعقوب الهاشمي.وأخرج له ابن قانع في معجم الصحابة رواية عنه، قال: "حدَّثَنا يعقوبُ بن غيلانَ العُمَانِيُّ، نا أبو كريب، نا فردوس، عن مسعود، عن حبيب بن أبي ثابِت، عن محمد بن مسلم بن شهاب، عن أبي اليسر، وزياد بن القرد، أنهما شهدا أنهما سمعا رسول الله (يقول لعمار، وهو يمسح التراب عن وجهه في المسجد: يا عمَّار تقتلك الفئة الباغية". وروى ابن قانع أيضًا قال: "حدَّثَنا يعقوب بن غيلان العماني، نا أبو كريب، نا أبو أسامة، عن مُجالد، عن الشعبي عن فروة بن مُسَيْك قال: قال لي رسول الله (: أَكرهتَ يومكم , يوم همدان؟ قلت: إِي والله , فقال: الأهل والعشيرة , أما إنه خير لمن بقي".
6 ـ علي بن محمد العماني:
حدث عن أحمد بن سعيد الدارمي، روى عنه أبو الحسن بن الجندي.
7ـ عمر بن داود العماني:
حدَّث عن عباس الدوري، وأبي بكر بن أبي خيثمة، والمفضل بن سلمة بن عاصم وثعلب، روى عنه أبو عبيد الله المرزباني، وتوحي سلسلة شيوخه أنه ربما كان بالكوفة. روى ابن عساكر عن "علي بن أيوب، أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران، أنشدني عمر بن داود العماني، عن أحمد بن يحيى ثعلب، عن ابن الأعرابي للحسين بن مطير الأسدي:
أحبك يا سلمى على غير ريبة لا بأس في حب تعف سرائره
ويـــاعاذلي لولا نفــاســـة حبــها عليك لما باليت أنك جائره" 8 ـ أبو بكر محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بالعماني:
كان حفيد العباس بن حمزة، كان فقيها حنفيا محدثا، رحل إلى العراق والبحرين وعمان، وغاب عن بلده أربعين سنة، أقام أغلبها في عمان، فكان يعرف في عمان بالنيسابوي، وفي نيسابور بالعماني. روى عن جده العباس بن حمزة، وعن السري بن خزيمة الأبيوردي، والحسين بن الفضل البجلي، وأبي العباس الكديمي، ومعاذ بن المثنى، وبشر بن موسى الأسيدي. روى عنه الحاكم أبو عبد الله.
9ـ أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن الحسين بن علي بن محمد العماني، ثم النيسابوري:
روى عن أبي بكر أحمد بن عليّ بن خلف الشِّيرَازِيّ، وروى عنه المؤيد بن محمد الطوسي وطائفة.
10ـ عمر بن عنبسة العماني:
روى عن أبي بكر محمد بن المطلب، روى عنه منصور بن جعفر
11ـ بكر قريش بن حيان العجلي العماني الأصل:
قال أبو حاتم بن حيان: "هو من بكر بن وائل، أصله من عمان، سكن البصرة".يروي عن ثابت البناني،وروى عنه شعبة بن الحجاج، ومن البصريين روى عنه عثمان بن عمر بن فارس، عنالعلاء بن عبد الرحمن.
12ـ القاضي أبو محمد عبد الرحمن بن محمد العماني:
كان يتولى قضاء ربع الكرخ ببغداد، ثم ولي قضاء البصرة، قال الخطيب البغدادي: "كان فيه جلادة وشهامة".
13ـ المنذر بن عائذ الأشج العماني.
هو المنذر بن عائذ بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن عصر الأشج.سمي الأشج لأن حمارة أصابته وهو فطيم، وقيل: سماه النبي (الأشج لأثر كان بوجهه، نزل البصرة مدة.
ب‌- المدرسة الأزدية العمانية في اللغة والنحو:
1 ـ الخليل بن احمد الفراهيدي الأزدي العماني البصري:
والفراهيد هم بنو فراهيد بن شبابة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، كذا قال ابنالكلبِي، وقال ابن دريد:هم بنوفرهود بن شبابة، وهم بطن من الأزد منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي. قال القفطي: "إنّ أوّل من وضع النحو على بن أبى طالب- كرّم الله وجهه - وأخذ عنه أبو الأسود الدؤولي، وأخذ عن أبي الأسود نصر بن عاصم البصرى، وأخذ عن نصر أبو عمرو بن العلاء البصري، وأخذ عن أبى عمرو الخليل بن أحمد، وأخذ عن الخليل سيبويه، وأخذ عن سيبويه الأخفش الأوسط، وأخذ عن الأخفش المازني والجرمي، وأخذ عن المازني والجرمي المبرد، وأخذ عن المبرد الزجاج" قلت: في هذه السلسلة ترى الخليل من أصل أزدي عماني، وكذا المبرد، وسيأتي عما قليل أن محمد بن عيسى أبو عبد الله العماني أخذ عن الزجاج كتاب (فَعَلْتُ وأَفْعَلْتُ).
حسب الخليل – وهو غني عن أن يعرف به - أن استنبط العروض وعلله، ولم يسبقه إلى علمه سابق ، وأنه ألقى النحو إلى سيبويه، تامًا أو ما يشبه التام، وأنه وضع العين.
2ـ المبرد:
هو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي من بني مالك بن النضر بن الأزد بن الغوث، معروف بالمبرد، كان شيخ أهل النحو، وحافظ العربية، وكان من أهل البصرة، ثم سكن بغداد. روى عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني.
حدث عنه نفطوية، وأبو بكر الصولي، وكثيرون. يقول الخطيب البغدادي: "أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن علي البزاز، قال: أخبرنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، قال: سمعت أبا بكر بن مجاهد، يقول: ما رأيت أحسن جوابا من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمتقدم". ويقول أيضا: كان المبرد ينسب إلى الأزد، فقال فيه أحمد بن عبد السلام الشاعر:
أيـــــابن ســــــراة الأزد أزد شــــنـــــــــوءة وأزد العتــــــيــك الصدر رهط المهلب أولئـــــــــــــك أبناء المنايا إذا غـــــــــدوا إلى الحرب عـــدوا واحدا ألف مقنب حموا حرم الإسلام بالبيض والقنا وهم ضرموا نــــــــــــــار الوغى بالتلهب وهم سبط أنصار النبي محـــمــــــد على أعجمي الخـــــلــق والمـــتـــعـــرب وأنت الذي لا يبلغ الناس وصفــــــــه وإن أطنب المــــداح مع كل مطنب
3ـ ابن دريد الأزدي:
هو اللغوي النحوي الشاعر الأديب محمد بن الحسن بن دريد الأزدي العماني، صاحب "الجمهرة"، كان أحفظ الناس. ولد بالبصرة وانتقل إلى عمان ثم رجع إلى البصرة، ورحل إلى فارس ثم عاد إلى بغداد، وله مؤلفات كثيرة.
4ـ محمد بن عيسى أبو عبد الله العماني:
نحوي بغدادي، كان من أهل الأدب، أخذ عن الزجاج كتاب (فَعَلْتُ وأَفْعَلْتُ) ورواه عنه، قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: ((حدثنا عنه – أي عن محمد بن عيسى العماني - علي بن محمد بن الحسن بن قشيش المالكي، عن الزجاج بكتاب فعلتُ وأفعلتُ)). وروى عنه أيضًا علي بن محمد بن الحسن الحربي.
المبحث الثاني
الإمام جابر بن زيد وتجليات التبادل الثقافي بين بيضة الإسلام والبصرة
1ـ اسمه، ونسبته، وكنيته:
هو الإمام جابر بن زيد، أبو الشعثاء، اليَحْمَدِيُّ، الزَّهْرَانِيُّ، الجَوْفي، الأَزْدِيُّ، العمانيُّ.
نسبته: أما نِسبتاه (اليَحْمَدِيُّ) - بفتح الياء المثناة من تحت، وسكون الحاء المهملة، وفتح الميم - و(الزَّهْرَاني) – بفتح الزاي الموحدة من أعلى، وسكون الهاء المهملة؛فترجعان إلى (يَحْمَد بن حمي بن جُشَم بن نصر بن زهران) وهم بطْن من أزد عمان؛ ومن ثم نُسِبَ أيضًَا (أزديًّا) (عمانيًّا).
وأما نسبته (الجَوْفِيُّ) – بفتح الجيم الموحدة من أسفل، وسكون الواو المهملة، بعدها فاء موحدة من أعلى - فالراجح أنها ترجع إلى مكانين مشتبهين وضعًا مفترقين صُقْعًا، أولهما: في عمان؛ حيث ولد في فرق من نزوى، وقد كانت المنطقة من إزكي إلى بهلا في عمان تسمى قديمًا (الجوف)، واختصت بهذه التسمية مناطق فرق ونزوى ومنح؛فلعله نسب إلى محل مولده. والموضع الثاني: موضع من البصرة هو (درب الجوف)؛حيث أقام الإمام جابر أغلب سني عمره. وبيان ذلك أن (الجوف) لغةً هو المطمئن من الأرض؛ وهي أجوافمنها ما أُطلِقَ، ومنها ما انماز بالإضافة: فالمطلَق منها (الجوف) أرض لبني سعد، و أخرى لبني مراد، وثالثة حماها رجل قيل له: حمار بن طويلع بأرض عاد، وقد يضاف له؛ فيقال (جوف حمار)، وهو الذي ضرب به المثل في الكفر فقيل: (أكفر من حمار)، وموضعان بالأندلس يقال لهما: (الجوف)؛ أحدهما قرب المحيط الأطلسي، والآخر بإقليم أكشونية. ومن المضاف: (جوف بَهْدَا) بأرض اليمامة، (وجوف طويلع)، و(جوف المحورة) بأرض همدان.أما (الجوف) الذي هو بأرض عُمَان؛ فـ(جوف الخميلة)- والخميلة موضع لايزال يطلق على منطقة في منح - فيه هلك فيه سامة بن لؤي في قصة حكاها ياقوت في معجم البلدان(44)، وقيل: اسمه (جو). وعليه فالأرجح أن نسبة أبي الشعثاء (الجوفي) ترجع للموضعين أحدهما أو كليهما للجوف في عمان أو لـ(درب الجوف) بالبصرة ؛وعليه فالميل لأحد الموضعين وارد والجمع بينهما أرجح، وليس بمنتقض في العقل أن يكون العمانيون حين أقاموا في البصرة قد سموا مواضع منها على ما كان بأرضهم؛ فكان (درب الجوف) سميَّا للجوف العماني بأرض نزوى وما حولها، وتكون نسبة الإمام جابر قد جمعت بينهما من هذه السبيل.
كان المزيًّ ممن مال إلى نسبته لجوف عمان، وضعَّف نسبته لدرب الجوف بالبصرة، قال المزي في نسبة أبي الشعثاء: ((والجوفي نسبة إلى ناحية بعمان، وقيل: موضع بالبصرة.يقال له: درب الجوف)).
على حين يُفهم من كلام ياقوت ميله لنسبة أبي الشعثاء لدرب الجوف بالبصرة. قال: ((دربُ الجَوْف بالبصرة، ينسب إليه حيان الأعرج الجوفي،حدَّث عن أبي الشَعثاء جابر بن زيد...وأبو الشعثاءِ جابر بن زيد الجوفي يروي عن ابن عباس)) ولو كان جوفًا مغايرًا لدرب الجوف بالبصرة لذكر ذلك، ونحوه ما صرَّح به ابن حجر حين قال في تقريب التهذيب: ((جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي ثم الجوفي - بفتح الجيم وسكون الواو بعدها فاء - البصري)), بل أوضح من هذا وذاك ما نقله الكلاباذي من النص على نسبه لدرب الجوف بالبصرة.
أما ما ذهب إليه ابن حبان من أن ((أصله من الجوف ناحية بعمان، وكان ينزل البصرة في الأزد في موضع يقال له درب الجوف)) فمحاولة جمْعٍلها وجاهتها وهي الأرجح عندي بين نسبتين اتفقتا لفظًا واختلفتا معنى.
وأمَّا ما جاء في بعض نسخ التاريخ الكبير للبخاري بالحاء المهملة (الحوفي)، وما جاء عند الذهبي في مشتبه النسبة وتاريخ الإسلام بالخاء المعجمة الموحدة من فوق (الخوفي) قال: ((والخوف ناحية من عمان)) وتابعه ابن حجر في تبصير المنتبه، وما جاء في الأنساب: ((وأبو الشعثاء جابر بن زيد اليحمدى الأزدي، قال أبو حاتم بن حبان:أصله من الحرقة ناحية بعمان وكان ينزل البصرة في الازد في موضع يقال له درب الحرق)) فلا يعدو كل هذا أن يكون تصحيفًا غريبًا.
كنيته:
تكنى عشرة في التراث العربي بأبي الشعثاء، لكن إذا أطلقت هذه الكنية فلا يعنى بها إلا واحد منهم هو أشهرهم: الإمام جابر بن زيد.
2، مولده:
اختلف في عام مولده؛ حيث تراوحت الأقوال في مولده بين عامي 18 هـ، و 21 هـ، والمصادر على أنه ولد في عُمَان، وفيها قضى صباه.
3ـ نشأته:
رحل الإمام جابر بن زيد بعد صباه في طلب العلم إلى البصرة التي وُلِدت قبله بعامين تقريبًا، فأقام بالمدينة الجديدة في حِلة (درب الجوف). كان الأزد في البصرة من الكثرة بحيث شغلوا ثلاثة دساكر من أصل سبعة، وكان أول من ولي قضاء البصرة بعد تأسيسها بأمر من عمر بن الخطاب ( رجل من الأزد هو كعب بن سور).
كانت البصرة محطَّ كثير من الصحابة والتابعين وأهل العلم، وبعد موقعة الجمل وُلِّيَ عليها عبد الله بن عباس ( عاملاً لعلي بن أبي طالب ( فوجد جابر ُبن زيد فيه وفي صحابة رسول الله ( معينًا ثرًّا نهل منه؛حتى أتى على علم سبعين بدريًّا من الصحابة، ناهيك عن علم غير البدريين، وعلم ابن عباس( الذي لم يستطع أن يحويه كله، ولا يكاد يقع خلاف في أن جابر بن زيد تلقى العلم عن عدد كبير من الصحابة وكبار التابعين، فكان ((من أكبر علماء التابعين، وكان شيخَ المدونين، وكان موضع إجلال كل المسلمين)).
4 ـ شيوخه:
يروي الإمام جابر بن زيد عن جمع غفير من الصحابة والتابعين، فقد ذكرت مصادر ترجمته أنه يروي عن عبدالله بن عباس (، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب،وعكرمة مولىابن عباس، والحكم بن عمرو الغفاري،ومعاوية بن أبي سفيان، وأسامة بن زيد، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجابر بن عبدالله، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وعروة بن الزبير، وعبدالله بن مسعود، وابن النعمان، وأبي سعيد الخدري، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، وأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر،وأسماء بنت أبي بكر.
5 ـ تلاميذه ومن رووا عنه:
أيوب بن أبي تميمة، كيسان السختياني، الحجاج بن الأسود، حراب بن زياد،الربيع بن حبيب، عمرو بن دينار المكي، مالك بن دينار،أمية بن زيد الأزدي، أيوب السختياني، حيان الأعرج، داودبن أبي القصاف، سليمان بن السائب، صالح الدهان، أبو حفص عبيدالله بن رستم، أبو المنيب عبيدالله بن عبدالله العتكي،عزرة بن عبدالرحمن الكوفي، عمرو بن هرم الأزدي، أبو هارون العماني الغطريف، قتادة بن دعامة، محمد بن عبدالعزيز الجرمي، مزيد بن هلال، المهلب بن أبي حبيبة، الوليد بن يحيى الأزدي، يعلى بن حكيم، يعلى بن مسلم، أبو العنبس الأكبر، أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة، ضمام بن السائب، أبوخليل، سماك بن حرب، سعيد بن عقار.
6 ـ من أخرج حديثه:
أخرج حديث الإمام جابر بن زيد:
- البخاري، ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة. كل في صحيحه.
- الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي والدارمي والبيهقي والدارقطني. كلٌّفي سُننه.
- الشافعي، وأحمد، وأبو داود، وأبو يعلى، وإسحاق بن راهوية، وابن الجعد، والحميدي. كلٌّ في مسنده.
- الحاكم في مستدركه.
- الطبراني في معاجمه الثلاثة.
- الطحاوي في شرح معاني الآثار.
- ابن الجارود في المنتقى.
- عبدالرزاق في مصنفه.
7 ـ مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه:
كثر من ترجموا للإمام جابر بن زيد من علماء الرجال والجرح والتعديل؛ حيث ترجم له:
ـ محمد بن سعد ت 230): الطبقات الكبرى: 179-182.
ـ خليفه بن خياط (ت240):تاريخ خليفة: 306، وطبقاته: 210 .
ـ أحمد بن حنبل (ت241): العلل: 1 / 48، 82، 163، 231، 242، 283، 321، 352، 353، 387.
ـ البخاري (ت256):التاريخ الكبير: 2 / 204، والتاريخ الصغير: 80.
ـ أبو زرعة (ت264):تاريخ أبي زرعة الدمشقي: 1/511، 672
ـ ابن قتيبه (ت276):المعارف: 435، 587
ـ ابن أبي حاتم (ت327):الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2/ 494 – 495
ـ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (347): المعرفة والتاريخ: 2 /12 -15.
ـ ابن حبان (ت354):الثقات: 1 /63.
ـ أبو نعيم الأصبهاني (ت430):الحلية: 3 / 85
ـ الشيرازي (ت476):طبقات الفقهاء: 88
ـ أبو الفضل محمد بن طاهر المعروف بابن القيسراني (ت507):الجمع بين رجال الصحيحين: 1 / 73.
ـ السمعاني (ت562): الأنساب:3/416.
ـ النووي (ت676) تهذيب الأسماء للنووي: 1 / 141-142.
ـ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت742): تهذيب الكمال: 4/434- 436.
ـ الذهبي (ت748) سير أعلام النبلاء: 4، 481-483، وتذكرة الحفاظ: 1 / 72، وتاريخ الاسلام: 4 / 77 - 78 و 4 / 95.
ـ ابن حجر (ت852):التهذيب 2 / 38-39.
أقوال العلماء فيه:
تعد مقولات العلماء ومعاصري أهل العلم ونقدة المحدثين شهادات يحملها التاريخ تبين مكانة العالم. وقد وردت مقولات لمعاصري الإمام جابر بن زيد وللعلماء من بعده تبين منزلة سامقة للإمام في علمه بالتفسير- وهو موضوع هذا البحث – ويكفيه أن يشهد له في هذا شيخه ترجمان القرآن الحبر البحر عبد الله ابن عباس (، وكذا ما ورد في علو سنده وصحته، وعلمه بالفتوى والفقه والأحكام، كل ذلك يتلبس بعقل لبيب راجح،وسعة علم، وزهد لا يترك للدنيا مكانًا في القلب، وورعٍ عند الدرهم والدينار، في خُلُق سامٍ،وانزواء عن لهو الدنيا وعبث الناس.
ورد في علمه بالتفسير أن ابن عباس( قال: " لو أن أهل البصرة نزلواعند قول جابر بن زيد؛لأوسعهم علمًا عمَّا في كتاب الله".
ومما ورد في علوِّ سنَده وصحته أنَّ ابن حزم روى حديثًاعن شعبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس(، ثم قال ابن حزم: "هذا إسناد لا يوجد أصح منه".
ومما ورد في علمه بالفقه والفتوى والأحكام حتى كان فقيه البصرة ومفتيها في حياة الحسن البصري. يقول إياس بن معاوية:" أدركت البصرة ومفتيهم رجل من أهل عمان"،ويقول إياس في رواية أخرى: "أدركت البصرة وما لهم مفت يفتيهم غير جابر بن زيد"، ويقول سليمان التميمي: "كان الحسن يغزو، وكان مفتي الناس ههنا جابر بن زيد". وفي علمه بأحكام الطلاق يقول ابن عباس(: "جابر بن زيد أعلمالناس بالطلاق". وفي علمه بالفتوى يقول عمرو بن دينار:"ما رأيت أحدًا أعلم بفتيا من جابر بن زيد"، ويقول زياد بن جبير: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري (عن مسألة فقال فيها، ثم قال: " كيف تسألوننا وفيكم أبو الشعثاء؟!" ولما انتصب جابر للفتيا لقيه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الطواف فقال له: "يا جابر،إنك من فقهاء البصرة، وإنك تُستَفْتَى؛ فلا تُفتينَّ إلا بقرآن ناطق، أو سُنَّةٍ ماضيةٍ، فإنك إن فعلت غير ذلك؛ هلكتَ وأهلكتَ".
وفي رجاحة عقله يقول أيوب السختياني: "كان لبيبًا لبيبًا لبيبًا".
وأما سعة علمه فقد ورد فيها كثير من كلام أهل العلم، من ذلك ما روي من قول قتادة يوم دفن الإمام جابر بن زيد: "اليوم دفن علم الأرض"، وكذلك ما روي عن أنس ابن مالك (حين قيل له: توفي جابر بن زيد، فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم إنا لله وإنا إليه راجعون! ما تأبوا الشعثاء؟! قال له مولاه: نعم والله اليوم! فقال أنس: مات أعلم الناس، يرحم اللهجابر بن زيد". وفيه يقول البدر الشماخي: "بحر العلم، وسراج الدين، أصلا لمذهب، وأسه الذي قامت عليه آطامه".
أما زهده وورعه فيقول فيه محمد بن سيرين: " كان أبو الشعثاء مسلمًا عند الدينار والدرهم".ويقولأبو نعيم الأصفهاني: "ومنهم المتخَلَّى بعلمه عن الشبه والظلماء، والمتسلَّى بذكره في الوعورة والوعثاء، جابر بن زيد أبو الشعثاء، كان للعلم عينًا مَعينًا، وفي العبادة ركنًا مَكينًا، وكان إلى الحق آيبًا، ومن الخَلْقِ هاربًا".
مصنفاته:
ـ ديوان الإمام جابر بن زيد: أول ما ألف في الإسلام. ويقع في عشرة أجزاء.
ـ كتاب الصلاة.
ـ كتاب النكاح.
ـ رسائل الإمام جابر.
8 ـ وفاته:
ـ قضى الإمام جابر أغلب حياته بالبصرة وبقي بها إلى أن توفي سنة 93هـ على القول الراجح، وقيل: توفي سنة 103هـ ، وقيل: 104هـ.
تَبيَّن مما سبق أن الإمام جابر في قُنَّة باذخة، ومكانة سامقة بين علماء الإسلام العارفين بالقرآن؛ حيث وردتْ مقولاته عند كثير من المفسرين والمحدثين، منهم السيوطي في الإتقان والألوسي في الروح وابن عاشور في التحرير والتنوير، وابن حجر في تهذيب التهذيب، والقرطبي في أحكام القرآن. على أن الإمام جابرًا له قراءة سيكون لها بحث منفرد يسبر أغوار اختياره فيها، وأثره في المعاني والتفسير.
تلمذ الإمام لابن عباس ( فكان جل ما أورده عن ابن عباس، وهي قضية جديرة بالبحث جدا؛ حيث إن طريق جابر بن زيد في الرواية عن ابن عباس واحدة من أوثق طرق النقل عنه وأصحها كما قال ابن حزم؛ ومن ثم فقد يكون لهذه الرواية فصل الخطاب فيما وقع من جدل حول تفسير ابن عباس وما ادعي عليه من "تنوير المقباس" والكلام الدائر حول كون طريق على بن طلحة أعلاها وأوثقها على الإطلاق.
* * *
الخاتمة
1 ـ كانت نزوى منذ ظهورها الضارب في القدم على على صفحة التاريخ عقل عمان، ونبع فكرها، ومنبت أئمتها؛ ومن ثم كان لها دورها الريادي في السياسة والاقتصاد، وسبق ذلك وتلاه مكانة رفيعة في الثقافة والعلوم؛ مما كوَّن علاقات اقتصادية وسياسية ومن ثم تبادلاً ثقافيًّا مع أهم المدن في الأقاليم المحيطة بعمان، وعلى رأس هذه المدن البصرة، التي نزح إليها كثير جدًا من الأزد، فكانوا حملة علم استقَوه من ينابيعه الثرة التي لم تختلط فيها دلاء الكلام، ولا صراعات المذاهب، فحملوه عن صحابة رسول الله (، وعن كبار التابعينالذين استوطنوا البصرة منذ بدء تمصيرها في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب).
2 ـ أثمر التبادل الثقافي بين هاتين المدينتين العريقتين عن مدرسة عمانية في رواية الحديث، امتدت جذورها من لدن الصحابي الجليل مازن بن غضوبة إلى جيل التابعين وتابعي التابعين في القرون الأولى للإسلام، متصلة بالفقيه العلم التابعي الثبت الإمام جابر بن زيد (، ومنه امتدت لغير واحد من العمانيين الذين حملوا مشاعل العلم، وأكملوا المسيرة في البصرة، أو عادوا منها إلى عمان، ومنهم من طوَّف في البقاع كالمدينة ومكة ونيسابور وغيرها ينشر نور العلم، أو يستزيد منه.
3 ـ ثم أينع هذا التبادل الثقافي بين بيضة الإسلام والبصرة في القرون الأولى للإسلام؛ فكانت مدرسة لغوية نحوية عزَّ أن يجود الزمان بمثلها؛ حيث برز علماء ترجع أصولهم للأزد العمانيين فكانوا عقولاً جبارة ورؤوسًا لمدرسة لغوية ونحوية بصرية بقي أثرها الفاعل عبر تاريخ العربية إلى يوم الناس هذا؛ حيث ألقى الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي النحو والعربية لسيبويه أنِفًا أن يصنِّف في علم سُبق إليه بكتابين لعيسى بن عمر الثقفي، ثم كشَف حُجُبَ العروض حتى أسفر مكتملاً لا ينقص منه شيء، ووضع العين الذي غطى جذور العربية فلم يفته منها شيء، ثم كان من بعده الأزديان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، ومحمد بن الحسن ابن دريد، وغيرهم من الأزد العمانيين الذين خدموا العربية رواية ودراية في البصرة وكانوا على صلة بأصولهم في عمان.
4 ـ وقف الإمام أبو الشعثاء جابر بن زيد قمة شامخة، كانت خير مثال على التبادل العلمي الثقافي بين نزوى والبصرة، حيث نزح- شابًّا محصِّلاً علومه الأولى- من نزوى إلى البصرة وكانت يومئذ ناشئة، وكان يومئذ لما يزل ناشئًا، فيها انطلق يحصل علوم الصحابة من لدن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- إلى أبي هريرة، ملازمًا ابن عباس مصاحبًا الحسن البصري مخرجًا عددا كبيرا من التلاميذ الذين رووا عنه علومه فكان (تراثه يغطي جل علوم الإسلام من الفقه والحديث والتفسير والعقيدة، مستمِدًّا مع علمه خلقًا ساميًا من أخلاق النبي ) وصحابته، ذلك الخلق الذي حمله الناس عنه على هذه الأرض الطيبة إلى يوم الناس هذا.

د. إيهاب محمد أبو ستة
أستاذ مساعد النحو واللغويات بقسم اللغة العربية كلية العلوم والآداب. جامعة نزوى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*بحث قدم لندوة "نزوى تاريخ وحضارة" التي نظمها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بالتعاون مع وزارة التراث والثقافة (2 -4 نوفمبر 2015م ).