[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/tarekashkar.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]طارق أشقر [/author]
لفت نظري في نهاية الأسبوع الماضي تصريحات وزيرة الهجرة والتربية المصرية الدكتورة نبيلة مكرم، التي أدلت بها لقناة الحياة المصرية بعد رحلة ثلاثة أيام قضتها في السودان للتباحث حول قضية بعض من الطلاب المصريين متحفظ عليهم لدى السلطات الأمنية السودانية لاتهامهم بالقيام بعمليات (غش) في أحد امتحانات الشهادة السودانية التي انتهت مؤخرا.
وقد أوضحت الوزيرة نبيلة في تصريحها، أنها توصلت لقناعة خلال مباحثاتها مع المسؤولين في السودان، بأنهم يتعاملون مع قضايا الغش في امتحانات الشهادة السودانية بأنها (قضية أمن قومي)، مؤكدة على قوة الشهادة السودانية المعترف بها عالميا وعربيا، وأن أي طالب مصري يمتحن الشهادة الثانوية في السودان يتم منحه في مصر عشرة درجات إضافية ترفع من مجموعه، مؤكدة ايضا على حسن التعامل الذي يلاقيه الطلاب المتحفظ عليهم وهم ليسوا معتقلين وليسوا مسجونين بل متحفظ عليهم حسب قولها.
تصريح الوزيرة المصرية جاء على ضوء أزمة شهدتها الساحة التعليمية بالسودان في الفترة الماضية إبان انعقاد امتحانات الشهادة السودانية، حيث قامت الأجهزة الأمنية بالتحفظ على عدد ستة وعشرين طالبا مصريا، وستة وعشرين طالبا أردنيا، وعدد ثلاثة معلمين سودانين، وذلك بسبب اكتشاف حالات غش بين هؤلاء الطلاب أثناء ادائهم أحد امتحانات الشهادة، مستخدمين في ذلك سماعات هاتف لاسلكية كانت مثبتة على آذانهم يستقبلون عبرها الإجابات من أولياء أمورهم خارج قاعات الامتحانات.
وقد احدثت هذه التحفظات على الطلاب دويا صاخبا بين أسرهم في كل من مصر والأردن، حيث سارعت الأخيرة أي الأردن بإلغاء الاعتراف بشهادات الطلاب الأردنيين الممتحنين بالسودان بتهمة تسريب الامتحانات، في حين أكدت وزيرة التربية والتعليم السودانية معالي سعادعبدالرازق في تصريح لها بأن القضية (غش) أثناء الامتحان وليست تسريب لأسئلة الامتحانات، وتم ترك ملف الطلاب للأجهزة الأمنية، غير أن الموضوع لاقى سجالا وجدلا واسعا في الدوائر الرسمية السودانية وفي وسائل التواصل الاجتماعي السودانية بمختلف تصنيفاتها. وعليه بدأت عمليات لتصحيح دون التفكير في إعادة للامتخانات التي جلس لها اكثر من أربعمائة وأربعة وسبعين ألف طالب وطالبة سودانيين وغير سودانيين بينهم حسب الوزيرة المصرية ألف وأربعمائة وسبعة وسبعين طالبا وطالبة مصريين.
وبقراءة سريعة لهذه الأحداث وبغض النظر عن توصيف وزيرة التربية والتعليم السودانية للقضية، خصوصا وأن هكذا حالات ربما تعتبر تصريحات الطرف الذي يهمه الاتهام بمثابة شهادة مجروحة، قد يفهمها البعض بأنها تصب في إطار الدفاع عن سلامة الامتحانات السودانية. ولكن بالغوص في تفاصيل تصريحات الوزيرة المصرية، يتأكد لكل من يتعامل مع القضية بشفافية، بأن الشهادة السودانية بخير ومصونة بشكل كامل، وأن من اكتشف عمليات الغش هم الأجهزة الأمنية السودانية التي تعتبر الشهادة السودانية قضية أمن قومي، وأنها حالات غش وليست تسريبا.
وما يؤكد قوة الشهادة السودانية أيضا، هو مخرجاتها العليا التي يشهد لها العالم خصوصا في اوروبا وكافة دول المنطقة العربية، حيث تشهد المستشفيات البريطانية بكفاءة الأطباء من خريجي الجامعات السودانية التي دخلوها بالشهادة السودانية نفسها، ثم يلتحقون بالجامعات البريطانية لمتابعة دراساتهم العليا بعد الجامعة وتستوعبهم المستشفيات البريطانية التي تدربوا فيها لكفائتهم التي تعتبر شهادة تميز الشهادة السودانية وخلوها من العيوب.
كما أن مخرجاتها من المهندسين والأطباء والمحامين والمترجمين وغيرهم من المهنيين العاملين في الكثير من الدول العربية والإفريقية، هو ايضا خير برهان على أن الشهادة السودانية سمعتها ومكانتها مدعومة بمخرجاتها وهي بخير.
وفيما تحسب تصريحات وزيرة الهجرة والتربية المصرية معالي الدكتورة نبيلة مكرم لها ولكياستها الدبلوماسية، كونها مدركة لواقع التعليم في السودان الذي وللتاريخ، ان لمصر اليد العليا في السودان منذ افتتاح أول مدرسة لتعليم أبناء الموظفين الأتراك بالسودان تحت إشراف رجل العلم المصري رفاعة رافع الطهطاوي رحمه الله الذي كان منفيا في السودان عام 1855، ومذ ذلك الحين انطلق التعليم الرسمي في السودان، حيث تلى ذلك إنشاء خمس مدارس رسمية في عام 1863 بعواصم المديريات وتدرس المنهج المصري.
ومع مرور حقب الحكم وتطور النظام التعليمي في السودان ظل التعاون المصري السوداني قائما في مجال التعليم بإرسال أعداد كبيرة من الناجحين من الطلاب السودانيين لتلقي تعليمهم الجامعي كمبعوثين في الجامعات المصرية كانوا يعاملون معاملة الطلاب المصريين، حتى جاءت ثورة ونهضة التعليم في السودان وتم إنشاء أكثر من عشرين جامعة في السودان وفرت التعليم الجامعي والعالي بالسودان بقدر أوسع ما كان عليه سابقا.
أما لكن هنا، فهي مداخلة اعتراضية، فرضها بروز مشكلة الغش التي كادت أن تعصف بسمعة الشهادة السودانية، ولذلك يكون من الأهمية بمكان عدم الطبطبة، وعدم دفن الرؤوس في الرمال، حيث لابد من الأخذ بهذه القضية مأخذ الجد لمعالجة النواقص، مع الأخذ في الاعتبار بأن المجتمع السوداني ليس مجتمعا استثنائيا وليس منزلا من السماء، فهو عربي الثقافة وإنساني التأثير والتأثر بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية ايضا.
ورغم أنه لاينبغي إيجاد العذر لمن يثبت تورطه من بعض المعلمين في واقعة (الغش) باعتبار أنهم ربما يكونوا ضحية إغراء مالي، ألا أنه ينبغي على الجهات المسؤولة إجراء دراسات حالة لأولئك المعلمين المتورطين، والنظر بالتالي في أوضاع المعلمين، وهذا سيؤدي بدوره الى تحصينهم من الاستجابة للإغراءات خصوصا وأن الاساس التربوي الأسري للمعلم السوداني مغروس فيه بحكم أساليب التنشئة الصوفية للشخصية السودانية مفاهيما واسسا تحض على اهمية الحرص على الأمانة والزهد. وفوق كل ذلك تظل الحاجة ماسة لمواكبة ودراسة كل ما تفرزه التطورات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية على المجتمعات العربية، حتى تظل سمعة التعليم فيها دائما مصانة وتحافظ على ما حظيت به من مكانة عالمية. مع ضرورة تواصل تقييم تجربة ثورة ونهضة التعليم في السودان من وقت لآخر.