بإعلان الهيئة التأسيسية لصياغة مسودة الدستور الليبي ختام جلساتها بعد سلسلة اجتماعات عقدتها على أرض السلام (سلطنة عُمان)، يضع الليبيون نقطة نهاية السطر قبل الأخير من صفحة الأحزان والآلام التي تراكمت على مدى خمس سنوات، مُؤْذِنين بفتح عهد جديد تدخل به ليبيا مرحلة جديدة من العمل المفعم بآمال استعادة ليبيا استقرارها وأمنها، والتحرك نحو بناء مؤسسات الدولة وإعادة إعمارها، وبناء الإنسان الليبي وفق مقتضيات الدستور الجديد ومواده التي ـ دون شك ـ يتطلع إليها الشعب الليبي ومعهم جميع المحبين من الشعوب والحكومات وفي مقدمتهم حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ والشعب العماني.
اليوم وبإعلان الهيئة التأسيسية لصياغة مسودة الدستور الليبي انتهاء أعمال جلساتها تكون قد قالت كلمتها، ووضعت بصمتها، وسط آمال وثقة بأخذها في الاعتبار المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الشعب الليبي، واستعادة ليبيا كيانها ووحدتها ودورها المؤثر عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وأن يحقق الدستور طموح جميع الليبيين نحو الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والممارسة الديمقراطية، ويضعهم على قدم المساواة دون تمييز بين طائفة وعرق ولون. فمن المعروف أن صياغة الدساتير مسؤولية كبرى تقع على عاتق القائمين بصياغتها؛ لأنها يتوقف عليها مستقبل الأوطان والشعوب، وبالتالي يتحتم على القائمين بذلك أن يتحلوا بالوطنية العالية والمسؤولية الكبرى وينتصروا على ذواتهم لصالح أوطانهم، والحرص على عدم ترك ثغرات تكون مدخلًا للشقاق والفرقة، ومبعثًا للتنازع، وتهديدًا لاستقرار الأوطان ووحدتها الاجتماعية والجغرافية. فلا تزال الأذهان يحضرها الكثير من التجارب في هذا الصدد لا سيما حديثًا. وما يميز صياغة مسودة الدستور الليبي هو أن الشعب الليبي وحكومته وممثليه حرصوا جميعًا على أن ينطلقوا في انتشال بلادهم من أوضاعها الحالية من أرض عُمان أرض السلام والأمن والأمان، وفي بلاد الأصالة صلالة، منطلق نهضة عُمان الحديثة، وحرصهم على الابتعاد عن أي ضغوطات، وبعيدًا عن قعقعة المدافع وأزيز الرصاص. ووسط هذا الحرص فإن الآمال تبقى عراضًا بأن يواصل جميع الليبيين صولتهم نحو حقهم وواجبهم في الحفاظ على وطنهم وأرضهم وعرضهم وكرامتهم وثراتهم ومقدراتهم، وأن يتمكنوا من الاستفتاء على مسودة الدستور الذي (أي الاستفتاء) يعد مشاركة وممارسة ديمقراطية، بل منطلقًا نحو ذلك، وإذا ما حظي الدستور بموافقة الشعب الليبي (أو ثلثيه) فإن الليبيين يكونون قد وضعوا نقطة نهاية السطر الأخير من صفحة أحزانهم وآلامهم.
وإذا كانت السلطنة (قيادةً وحكومةً وشعبًا) قد عبرت عن حبها للشعب الليبي، وحرصت على الوقوف إلى جانبه ومساعدته على كتابة تاريخ جديد يتمكن من خلاله من العودة إلى بناء ليبيا مستقلة آمنة مستقرة، يتم الاحتكام عبر المؤسسات بعد سنوات من التخبط في الفوضى، فإن هذه المحمدة يعود فضلها ـ بعد الله ـ إلى الشعب الليبي وحكومته، وإلى السياسة العمانية الحكيمة التي تحتكم إلى مبادئ التسامح والحكمة والسلام والحوار.
ليبيا اليوم بحاجة إلى أبنائها كل أبنائها دون استثناء، وبحاجة أن يتعلق جميعهم بها، بعيدًا عن تدخلات الخارج وضغوطاته وموالاته، لكي تستعيد عافيتها وألقها وحضورها الفاعل على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، وهذا لا يتأتى إلا عبر وعي أبنائها وانتصارهم على ذاتهم لمصلحة بلادهم. ولعل تزامن انتهاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي من أعمالها مع نجاح حكومة الوفاق الوطني الليبية في انتزاع السلطة في طرابلس بعد أسبوع من دخولها العاصمة، يمثل بداية جادة وحقيقية نحو استعادة ليبيا استقرارها.