[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]

”لقد ابتدأت مجابهة بوتين بعد فترة قصيرة نسبيًّا من فترتي رئاسته الأولى. كان في البداية منشداً إلى تصفية حكم المافيات في روسيا، وإلى ضبط الأمن وفرض سلطة الدولة على كافة بقاعها المتسعة، وإعادة الاقتصاد الروسي إلى حيويته وأوضاعه الطبيعية، واستعادة مؤسسات القطاع العام التي خصخصها يلتسين مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي”
ــــــــــــــــــــــ
العين بالعين والسن بالسن هذا ما تطبقه روسيا في عهد بوتين. عقوبات أميركية وأوروبية ضد مسؤولين روس وأوكرانيين مؤيدين للرئيس السابق يانكوفيتش قابلها بوتين بعقوبات ضد مسؤولين أميركيين. الآن أصبح انضمام شبه جزيرة القرم إلى الوطن الأم حقيقة واقعة. صحيح أنها خطوة ازعجت الغرب لكن ليس بإمكانه تغيير الواقع، وليس بين يديه سوى العقوبات وهذه أيّاً كان اتساعها ستظل محدودة, فالرئيس الروسي يدرك تماماً أن الغرب يحتاج إلى بلده في شأن الكثير من القضايا العالمية. بالنسبة لخطاب الرئيس بوتين، كان خطاباً مؤثراً، خاطب المشاعر القومية للروس وريثي المجد السابق إبّان المرحلة السوفياتية. أراد بوتين إرسال رسائل عديدة إلى الغرب من خلال خطابه: إن روسيا في عهده ليس روسيا يلتسين الضعيفة المهلهلة الفقيرة التي بحاجة إلى دعم أميركي-أوروبي! أراد بوتين التأكيد بأن روسيا قوية باقتصادها وبسياستها الخارجية، وهي تقف موقف الندّية للولايات المتحدة والأوروبيين (الشركاء الغربيين) وفقاً لتسمية بوتين لهم.
أراد بوتين القول في خطابه بأن العالم لم يعد أحادي القطبية بتفرد الولايات المتحدة الأميركية به وبقضاياه، لقد وضع الرئيس الروسي حداً للأحادية القطبية، وهو الذي تحدث مراراً عن ضرورة "التعددية القطبية " كان أبرزها خطابه في مؤتمر الأمن في ميونخ في عام 2007, وكان يستعد حينها للانتقال لمنصب رئيس الوزراء في عهد ميدفيديف. استمرت السياسة الروسية بكافة تفاصيلها لكن مع خطاب ميدفيديفي أنعم، إلى أن عاد بوتين إلى الرئاسة ليعود الألق والبريق إلى خطواته السياسية بمقدار أكبر مما كان عليه في فترتي رئاسته الأولى. لطالما تعبت روسيا من"حشرها في الزاوية" من قبل الغرب الذي اتهمه بوتين بأنه دائماً ما " خدع روسيا واتخذ قرارات من وراء ظهرها ". اعتبر أن الغرب يتمسك بسياسة " تفتيت روسيا منذ عهد القيصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين في مواجهة الاتحاد السوفياتي". اعتبر بوتين أن الأوروبيين والأميركيين" اجتازوا الخط الأحمر حين ساعدوا على تنصيب حكومة مواتية للغرب في كييف، ضاربين عرض الحائط بالاتفاق الذي وُقّع بين يانكوفيتش والمعارضة في 23 فبراير الماضي"، فما كاد حبر الاتفاق يجف (وقد جرى توقيعه بحضور مندوبين غربيين) حتى جرى خلع يانكوفيتش! لقد انتقد بوتين الدول الغربية وسياساتها الحمقاء في يوغسلافيا، وكوسوفو وأفغانستان، والعراق، وليبيا، بالفعل تصرف الغرب في هذه الدول على قاعدة الصلف والعنجهية، وفي بعضها الاحتلال المباشر تحت مسمى"نشر الديموقراطية" و"إزاحة الأنظمة الدكتاتورية" و"مصادرة أسلحة الدمار الشامل " كما جرى في العراق. الذي تبين أنه لا أسلحة دمار شامل في العراق، وأن الفوضى وانعدام الأمن هو الذي جرى في العديد من هذه البلدان على ضوء التدخل الأميركي ـ الغربي فيها. العديد من هذه الدول عادت عقوداً إلى الوراء، وهي تعاني من النزاعات الطائفية والمذهبية والإثنية والاقتتال فيما بينها، إضافة إلى إمكانية تقسيمها. هذا ما جلبته السياسات الأميركية ـ الغربية على هذه الدول. إنها بالفعل "سياسة تدميرية" مثلما وصفها بوتين. "يعتقدون أنهم يتمتعون بمكانة استثنائية، ويشعرون بأنهم المختارون وبإمكانهم تقرير مصائر العالم وأنهم فقط من هم على حق".هكذا وصف بوتين الغربيين.
لقد ابتدأت مجابهة بوتين بعد فترة قصيرة نسبيًّا من فترتي رئاسته الأولى. كان في البداية منشداً إلى تصفية حكم المافيات في روسيا، وإلى ضبط الأمن وفرض سلطة الدولة على كافة بقاعها المتسعة، وإعادة الاقتصاد الروسي إلى حيويته وأوضاعه الطبيعية، واستعادة مؤسسات القطاع العام التي خصخصها يلتسين مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقام بفرض سلطة الدولة عليها، وصادر أموال العديدين من المليارديرات ( الأغنياء الجدد ومعظمهم تابعين للحركة الصهيونية) فوضع البعض في السجون، وهرب آخرون من روسيا بعد أن استقامت ظروف الفيدرالية الروسية. أولى بوتين الأهمية الكبرى لسياسات روسيا الخارجية ومجابهة عالم القطب الواحد. وأبرز خطوة قام بها على طريق هذه المجابهة هي الحرب الروسية ـ الجورجية في عام 2008 حين قام بالتدخل لحماية الروس في تلك الجمهورية. في فترة رئاسته الثانية التي ابتدأت مع مجيئه إلى السلطة في عام 2012 صاعدت روسيا من مجابهتها للغرب وكانت الخطوة الأبرز(حتى اللحظة) في عناوين هذه المجابهة هي استعادة شبه جزيرة القرم إلى الوطن الأم، بعد أن كان الرئيس خروتشوف قد منحها (بقرار فردي صادق عليه السوفيت الأعلى آنذاك) إلى أوكرانيا فهو مثلما يقول الروس يعشق أوكرانيا.
مراقبون عديدون يكتبون عن أن استعادة شبه جزيرة القرم سيفتح شهية كافة الروس المقيمين في جمهوريات أخرى على الانضمام لروسيا، هذه الجمهوريات والدول عديدة منها: كازاخستان، استونيا، مولدافيا لاتفيا، ليتوانيا، وغيرها. في الاعتقاد أن ما جرى في أوكرانيا لن ينسحب على هذه الدول للأسباب التالية:ـ
أولاً: ان شبه جزيرة القرم هي روسية في الأساس وليست أوكرانية.
ثانياً: أن ما حصل في جورجيا وأوكرانيا سيكون بمثابة الدرس لكافة الدول التي يتواجد فيها مواطنون روس بنسب عالية (منذ العهد السوفياتي بالطبع بحكم سهولة التنقل السكاني آنذاك) وعدم الإساءة إليهم وإعطائهم كافة الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الآخرون في تلك الدول.
ثالثاً: إن الناطقين بالروسية هم أكبر بكثير من المواطنين من أصل روسي، فالكثيرون الكثيرون من أبناء كافة الجمهوريات التي كانت في إطار الاتحاد السوفياتي تكلموا وما زالوا وسيظلون يتكلمون اللغة الروسية، لذا لا بد من التفريق حين أخذ النسب بين المواطنين من أصول روسية والناطقين بها.
لم يكن خطاب بوتين خطاباً أيديولوجيًّا يبشّر بفكر روسي جديد، بل باختصار شديد كان خطاباً يعكس العزة والكرامة والشعور بالسيادة في بلده، يحمل مثلما قلنا " الندية" للغرب، وصفاقته التي تجلت في سياسات عديدة وما زالت تتجلى في العديد من المظاهر". فمن لا يقف معنا فهو ضدنا"مثلما روّج بوش الابن إبّان رئاسته للولايات المتحدة . و"دول أميركا اللاتينية هي الحديقة الخلفية للولايات المتحدة"، وغيرها من الشعارات التي تُظهر صلف هذا الغرب، والذي بالنسبة إليه فإن القوانين الدولية ومبادئ السلام والنزاهة والعدل وحقوق الإنسان بمثابة "العجينة" التي يقولبها وفقما يشاء، فحيث تكون مصالحه تكون العدالة وحقوق الإنسان، التي أدار ظهره إليها ولا يزال في بعض المواقف من القضايا العالمية، وهي كثيرة وأكبر من أن تُحصى وتُعد!.
خطاب بوتين كان بمثابة جرس إنذار لهذا العالم الغربي، وضوء أحمر تنبيهي لهذا الغرب، علّه يعد الحسابات قبل اتخاذ خطوات فعلية في هذه القضية أو تلك. نعم لم يعد العالم أحادي القطبية مثلما بقي لعقود عديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، بل أصبح عالماً فيه روسيا والصين (وبالتحديد روسيا بشكل أكبر) على طريق استكمالها لتشكيل قطب عالم آخر في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً.