[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” لم أكن يوما من دعاة الحجر على الحريات أو تكميم الأفواه.. ولا أتصور أيضا أن أمارس الصمت على حالة الفوضى التى أصابت العالم الافتراضي وأصبحت تهدد حاضرنا ومستقبلنا, وعندما أعود بذاكرتي عشرين عاماً إلى الوراء قبل ظهور هذا العالم المخيف, أجد أن أحوالنا كانت أهدأ كثيراً وكنا أكثر تسامحاً وانتماء وتحملاً للمسؤولية والتحاماً مع قضايانا الوطنية, ولم نعرف الفرقة والتناحر والمكايدة التي نراها اليوم تنهش في جسد مجتمعاتنا”

امتحانات آخر العام على الأبواب, وحان وقت تكثيف المذاكرة لإنقاذ العام الدراسي الذي تحول لعبء ثقيل تنوء به كواهل الأسر مادياً ونفسياً, قررت اتخاذ إجراءات حاسمة تجاه ابني المراهق الذي أهدر جل شهور السنة الدراسية بين اللعب والخروج مع الأصدقاء وبين الجلوس لساعات طوال خلف قضبان العالم الافتراضي (الفيس بوك والواتساب واليوتيوب) اللعين؛ مهملاً دروسه ومؤجلاً المذاكرة لأجل غير مسمى, حاولت أن أنزع من يده الهاتف النقال فاستمات في الدفاع عنه, فقررت إيقاف عمل "الشريحة" وقطع خدمة الـ"الواي فاي" عن المنزل بأكمله, فجن جنونه وخر أمامي منهاراً زاحفاً, وأخذ يرجوني مستعطفاً ومستنكراً :كيف لي أن أعيش بدون الـ "الشات" والـ"الفيس بوك" , وقفت مذهولاً أحدث نفسي .. مشفقاً على الحال التي وصل إليها ابني الصغير, الذي تحول لأسير للعالم الافتراضي, وتحول هاتفه المحمول لشريان يتنفس من خلاله الحياة, وبدونه ينهار ويكاد ينتهي.
للأسف الشديد تحول كثير منا خصوصاً الشباب أسرى لهذا العالم الافتراضي, وتسبب هذا الاستسلام المريع في إصابة البعض بحالة أقرب للتوحد والبلاهة وعدم الاكتراث؛ فالسماعات استولت على حاسة السمع والشاشات سلبت النظر والانتباه , والأنامل لا تجيد سوى الضغط على الأزرار, والمحتوى التافه سيطر على الوجدان, استسلام لا إرادي للعوالم الافتراضية تراجعت معه القيم والمبادئ المتعارف عليها, وتقطعت بسببه صلة الأرحام وكادت تختفي من الوجود خصال وصفات تربينا عليها ؛مثل طاعة الوالدين ونجدة الملهوف ومساعدة الضعيف والإحساس بالآخرين.
تغلبت شهوة الأزرار ورغبة الظفر بالإعجابات والتعليقات (المشجعة أو المسيئة) على ما ننشره على صفحات التواصل الاجتماعي ـ على المروءة والإنسانية, وإلاَّ ما تفسير مانشاهده من ممارسات بعض الشباب عند وقوع حوادث السير من التفافهم حول مكان الحادث شاهرين هواتفهم "الغبية" لتصوير القتلى والمصابين والدماء تنزف منهم , دون الالتفات لمحاولة إنقاذ حياتهم أو طلب الإسعاف لهم, إلاَّ بعد الارتواء أولاً من شهوة التصوير والـ "تشيير" على الـ "تويتر والفيس بوك" لنيل أكبر عدد من الإعجابات والتعليقات الفارغة.
من أغرب ما شاهدت على المدعو "فيس بوك" صورة لأحد العراقيين أصيبت ساقه في أحد التفجيرات ببغداد, ورغم إصابته الشديدة والدماء التي تنزف من ساقيه, أشهر هاتفه النقال وراح يصور آثار الانفجار ولحظات الاحتضار وأنين المصابين غير مكترث بإصابته, فقد تغلبت شهوة التصوير والـ"تشيير" على غريزة البقاء والخوف من الموت, وتكرر المشهد في مصر عندما أطلق أمين شرطة الرصاص على بائع الشاي لا ختلافهما على السعر, وسقط البائع يصارع الموت وسط طوفان من البشر, لم يكلف أحدهم مد يد العون لمحاولة إنقاذ الضحية أو القبض على القاتل, بينما شرع معظمهم في إشهار هاتفه المحمول لتصوير وقائع الجريمة, ونشرها على الـ"فيس بوك" بحجة فضح ممارسات الداخلية البلطجية, وتركوا الرجل ينزف حتى فارق الحياة.
ومن أطرف وأغرب ما شاهدته على الـ"فيس بوك" أحد الجيران يوجه رسالة لجاره في نفس الدور الذي يسكن فيه ؛ بأن يقصر صوت التليفزيون لأن لديه ولدين في الثانوية العامة يحتاجان الهدوء ليتسنى لهما استذكار دروسهما, وبدلاً من أن يتواصل مع جاره مباشرة بأن يطرق بابه أو حتى يتصل به هاتفياً, وجد أن الوسيلة المضمونة الوحيدة لإيصال رسالته هو الـ"فيس بوك" فإذا لم يستجب الجار احتراماً لأصول الجيرة, فسيستجيب قطعاً خوفاً من الفضيحة والتشهير على صفحات الـ"فيس بوك" الفتاكة التي لا تصد ولا ترد.
وامتدت آفات العالم الافتراضي إلى عالم الصحافة والإعلام, فأصبحنا نرى صحفيين كباراً وصغاراً , ينشرون آراءهم (المهنية أوالشخصية) ومقالات الرأي (المسموح والممنوع نشرها) وأخباراً مهمة ربما تصل لدرجة السبق الصحفي على موقعهم الشخصي أو موقع الجريدة على "تويتر" و"فيس بوك" دون انتظار صدور الجريدة الورقية, فشهوة النشر لنيل الشهرة وإثارة الجدل والصراع والظفر بأكبر قدر من الإعجابات والتعليقات والمتابعات على مواقع التواصل الاجتماعي, تغلبت على القواعد الصحفية المستقرة والمعايير المهنية الراسخة وقدسية الظفر بالسبق الصحفي كما كان يحدث "زمان" قبل ظهور الفضاء الإلكتروني الجديد.
امتد التأثير السلبي للعالم الافتراضي إلى جميع مناحي حياتنا , فنذهب لإنهاء معاملة أو خدمة في أي مصلحة حكومية .. نُلقي التحية على الموظف المختص فلا يرد , ولا ينتبه لوجودنا من الأصل, فتركيزه متجه لأسفل؛ حيث يستقر هاتفه النقال, وبعد عناء ننجح في جذب انتباهه, يرد علينا دون أن يكلف نفسه عناء النظر لمن يحدثه (و ربما لعننا في سره) لأننا قطعنا عليه لذة التواصل مع هاتفه, وبعد طول انتظار يرد علينا بإجابات مقتضبة , محاولاً التخلص منا بأي ثمن ليعاود اللقاء مع صديقه (الأنتيم).
يتكرر المشهد في منافذ سداد فواتير (الكهرباء والمياه والهاتف والإنترنت) , تعطي الفواتير للمحاسب الشاب المنشغل بعالمه الافتراضي, يأخذ منك بطاقة الدفع ولا ينتبه لطلبك بسداد جزء من قيمة الاستهلاك, فيمرر البطاقة بالقيمة كاملة ويلتهم المبلغ الموجود في بطاقتك دون أن يعطي لك فرصة الاختيار, وتنصرف صاغراً وأنت تضرب (أخماس في أسداس) على خططك وتدابيرك التقشفية التي أفسدها العالم الافتراضي, ويتكرر الموقف عند المحاسب القابع على "كاونتر" الدفع في المحلات التجارية , المنشغل بهاتفه الحديث ؛ غير مكترث بطبيعة وظيفته التي تتعامل مع أرقام ونقود , فتجده يضيف أغراض الزبون الذي يليك في الصف إلى فاتورتك ولتصحيح الوضع يضيع الوقت والجهد وتصاب بالتوتر ويعتريك الغضب بعدما يخبرونك أن عليك الانتظار عدة أيام حتى تستعيد نقودك المستقطعة .
لم أكن يوما من دعاة الحجر على الحريات أو تكميم الأفواه.. ولا أتصور أيضا أن أمارس الصمت على حالة الفوضى التى أصابت العالم الافتراضي وأصبحت تهدد حاضرنا ومستقبلنا, وعندما أعود بذاكرتي عشرين عاماً إلى الوراء قبل ظهور هذا العالم المخيف, أجد أن أحوالنا كانت أهدأ كثيراً وكنا أكثر تسامحاً وانتماء وتحملاً للمسؤولية والتحاماً مع قضايانا الوطنية, ولم نعرف الفرقة والتناحر والمكايدة التي نراها اليوم تنهش في جسد مجتمعاتنا, وتهدد كثيراً من الدول بالتقسيم والحروب الأهلية, بعد تحول هذه المواقع الافتراضية لمنصات قصف تزكي النعرات العرقية وتثير الفتن الطائفية والمذهبية وتنشر الفرقة والكراهية بين أبناء الوطن الواحد الذين ظلوا قروناً طويلة متعايشين متحدين ومتلاحمين, يتشاركون الأفراح والأتراح ويقفون صفاً واحداً في مواجهة الغزاة و الطامعين.
لو أجرينا استفتاء على إغلاق هذه المواقع "اللا اجتماعية" , يا ترى ماذا ستكون النتيجة , أعتقد أن النتيجة ستكون صادمة لجيل الآباء والأجداد وستتمسك الأجيال الجديدة بهذا العالم الافتراضي الذي يعتبرونه رئة يتنفسون من خلالها الحرية وساحة لممارسة الفوضى غير الخلاقة