” اليوم يخبرنا تقرير جديد لليونيسيف بأن بحسب احد المقاييس الرئيسية وهو فقر الاطفال فإن اليابان تراجعت خلف الولايات المتحدة، وكشف التقرير عن فجوة بين دخل العائلات الافقر في اليابان التي تعول اطفالا ودخل المنازل المتوسط حيث تحتل اليابان بحسب هذا المقياس المرتبة 34 من 41 دولة من الدول المتقدمة مقارنة بالولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الـ30.”

هناك الكثير من التصورات المحددة سلفا عن الفقر، فعلى اليمين الفكرة الشائعة بأن الفقراء هم الملومون ـ بمعنى انهم لو كانوا يعملون اكثر ويرتكبون جرائم أقل ويقللون من معدلات الولادة خارج اطار الزواج ويتعاطون مخدرات اقل لتهاوى معدل الفقر. على الجانب الاخر يلقي كثير من الليبراليين مسؤولية الفقر على عاتق سياسات السوق الحرة التي اضعفت اتحادات العمال وقضت على دولة التعاون والرفاهية.
كلتا النظرتين قابلتان للتصديق ، وكلاهما من العوامل المهمة ربما ، ولكن عندما أنظر الى اليابان أجد من الادلة الكثير على انه لا السلوك الفردي ولا سياسة السوق الحرة هي السبب الرئيسي للفقر، بل ان اليابان تربك حكمتنا التقليدية.
فنموذج اليابان كدولة ذات معدل فقر منخفض ليس دقيقا ، ذلك ان اليابان لديها عدد محدود نسبيا من الفقراء ، وتتمتع بمجتمع متساو جدا كما كانت في مطلع الثمانينات ، لكنه منذ ذلك الحين ارتفع معدل الفقر القومي بلا هوادة.
اليوم يخبرنا تقرير جديد لليونيسيف بأن بحسب احد المقاييس الرئيسية وهو فقر الاطفال فإن اليابان تراجعت خلف الولايات المتحدة ، وكشف التقرير عن فجوة بين دخل العائلات الافقر في اليابان التي تعول اطفالا ودخل المنازل المتوسط حيث تحتل اليابان بحسب هذا المقياس المرتبة 34 من 41 دولة من الدول المتقدمة مقارنة بالولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الـ30.
ويتلاءم مستوى الفقر المتزايد مع الاتجاهات الاقتصادية السلبية الاخرى الخارجة من اليابان مثل تراجع الاجور الحقيقية وارتفاع عدم المساواة وزيادة فرص العمل غير الثابتة ذات الدخل المنخفض، والتي تكشف جميعا ان كثيرا من الناس في اليابان يعيشون وضعا اقتصاديا غير جيد.
السؤال الذي يثور الان هو لماذا يحدث هذا؟ اذا كان تفسير السلوك السيء للفقر صحيحا فنتوقع ان نرى معدلات عالية للجريمة وكثير من انعدام فرص العمل وارتفاع معدلات المواليد خارج اطار الزواج والاستخدام غير المشروع للمخدرات.
على اننا لا نرى شيئا من هذا ، فاليابان لديها اعلى قوة عاملة واقل معدل من البطالة، ولا يوجد كسل او خمول ، بجانب اقل نسبة من معدلات الجريمة ولاسيما جرائم العنف ، ومن النادر ان ترى انفراد ولي امر واحد برعاية الابناء والتي نسبتها نحو 3% على مستوى اليابان مقارنة بـ25% في الولايات المتحدة، كما ان معدلات الاستخدام غير القانوني للمخدرات اقل كثيرا منه في الولايات المتحدة.
لذلك فإن اليابانيين افضل سلوكا بدرجة كبيرة من الاميركيين. والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا عن سياسات السوق الحرة؟ هنا القصة اكثر غموضا ولكنني ما زلت اراه عاملا ضئيلا.
تشتهر اليابان بنظام التعاون والرفاهية حيث الامن الوظيفي عال والترقيات تعتمد على الاقدمية، وهذا النظام تراجع في السنوات الاخيرة منذ قامت ادارة رئيس الوزراء الاسبق جونشيرو كويزومي بإنهاء الحظر على استخدام العمال غير الثابتين في مجال التصنيع ، ولكن كثيرا من التحول الى الوظائف منخفضة الاجر غير المستقرة حدث بدون تغيرات كبيرة في السياسة.
قاومت اليابان ايضا الانفتاح اكثر على التجارة والهجرة ، وهي اقل من معظم الدول الغنية في اجراءات الانفتاح التجاري، وتشتهر بمقاومتها لاستيراد العمالة الوافدة.
فماذا عن الاتحادات؟ تراجعت عضوية الاتحادات العمالية بشكل مطرد منذ السبعينات كما حدث في دول اخرى غنية ولكن لا يحتمل ان تكون السياسة هي السبب في ذلك اذ لم تكن ثمة تغييرات كبرى في القانون الياباني الخاص بالاتحادات العمالية فضلا عن ندرة النزاعات العمالية اصلا. في الواقع علاقة العمال بالادارة في اليابان كانت اقل صداما بدرجة كبيرة من نظيرتها في الولايات المتحدة.
السؤال الان: اذا لم تكن سياسة السوق الحرة ولا السلوك الفردي مسؤولين عن معدل الفقر المتقافز في اليابان فما السبب يا ترى؟ احد الاحتمالات هو قلة الانتاجية حيث ان انتاجية العمال تراجعت مع تراجع الاجور.
احتمال اخر يتعلق بأثر التنافس التجاري حيث ظلت اليابان اكثر حمائية من معظم الدول الغنية في الوقت الذي لا تعد فيه حماية الاسواق المحلية ضمانة للنجاح في الاسواق العالمية. فالمصدرون اليابانيون يواجهون منافسة متزايدة من منافسين اسيويين ومن شركات اميركية مبدعة في مجالات مثل الالكترونيات والاليات والسيارات، وهناك منافسة مباشرة اكثر من دول تنتج بضائع مماثلة مما يقلل من مكاسب التجارة ومن ثم يشعر العمال اليابانيون بالوطأة برغم يد الحكومة الحمائية. وهذا ما قد يفسر لماذا يحقق الاغنياء في اليابان مثل نظرائهم في الدول الاخرى مكاسب مستمرة في الدخل بينما الفقراء يزدادون فقرا.
على ان هذه الاسباب تخمينية من جانبي، اما الشيء الواضح فهو ان اليابان تتحدى رواياتنا الاعتيادية عن اسباب الفقر لا سيما فيما يخص زيادة نسبة الفقراء منذ الثمانينات، وهو ما يعني ان الكثير من حلول الفقر المطروحة من اليمين او اليسار ربما يكون مشكوكا في تأثيرها.

نواه سميث
أستاذ مساعد المالية بجامعة ستوني بروك وكاتب حر بعدد من الصحف والمجلات الاقتصادية
خدمة واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز – خاص بالوطن