[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/waleedzubidy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]وليد الزبيدي[/author]
ثمة من يقرر زراعة النخيل، وهو بذلك يبذر ليجني بعد زمن قد يطول، وهناك من يزرع غير ذلك على أمل أن يجني بعد وقت قصير، وكما هي الزراعة لها قوانينها فإن السياسة لا تخرج عن ثوابتها الرئيسية وإن شابها ما هو خارج عن سياقاتها المعروفة، لكن النتائج قد تكون واحدة أو متقاربة من بعضها، خاصة إذا اعتمدت قاعدة واحدة تسير وفق المعطيات ولا تتأثر برغبات هذا الطرف أو ذاك.
عندما وضع الفيلسوف الصيني الكبير صن تزو كتابه "فن الحرب" قبل اكثر من الفين وخمسمائة عام، قرر حينها أن يقول كلمته لمن يأتي بعده ليس لجيل واحد وإنما لاجيال وقرون، وكان الكتاب عصارة فكر وتجارب ووعي والهدف منه لم يكن اعداد جيش لينتصر الامبراطور ويطوي صفحات الكتاب، لهذا بقي الأثر جيلا بعد جيل، وطاف هذا الفكر من سور الصين إلى جنائن بابل واهرامات مصر وقلاع روما واثار اليونان وصولا إلى صروح اكاديميات أميركا وغيرها، وسوف لن يتوقف عطاء هذا الفكر الثر على مدى قرون طويلة، ولو توقفنا عند اثار ومنجزات مثل هذا سنجد الكثير التي اثُرت في حياة الأمم والشعوب، فكان فيض هنا وعطاء هناك، ومهما تعرضت الدول والبلدان للعواصف والزلازل فإن ثوابت الفكر ومنابع الإبداع الكبيرة لن تمحى حتى إذا تعرضت لعمليات تجريف مقصودة وممنهجة، لأن البذر الحقيقي لن تٌهدر عطاءه وتوقف نبعه ودفقه مثل تلك المحاولات حتى لو ارتقت إلى مستويات متقدمة من الجدية والحزم، فالفرق يبقى شاسعا بين نبت يغوص في الأعماق وقشور تحاول التظاهر بالعمق، وتبقى الفوارق شاخصة بين رؤى تنهمر لتسير في مسارب واضحة وبمقاصد شاخصة، واخرى تلهث وراء بريق زائف يصنعه مزيفون لمقاصد رخيصة واهداف قد تكون بذيئة ودنيئة.
الفرق بين البذر الاني وسواه أن كلاهما ينتج شيئا ما، لكن المعضلة في البذر الآخر الذي مقصده سيئا لتكون مخرجاته اسوأ واخطر، وفي تاريخ الأمم والشعوب يجد المرء من هذا وذاك، لكن العناوين المتعددة تصب في نهر واحد، وعند البحث والاستقصاء في المنابع سنجد قدرا ليس قليلا من البذر السيء الذي يفضي إلى الخراب والضياع، لكن اشراقات البذر الطيب ولأنها تتناغم والنفس البشرية وتتلاقى معها في مواطن كثيرة ونادرا ما تتقاطع فيما بينها، فإن حضورها غالبا ما يكون مؤثرا وفاعلا، في حين يبوح البذر السيء بنتف من غبار وعتمة لتتشكل كومة من الخراب وما يفرزه في ثنايا الحياة.
عبر التاريخ يسير تياران متناقضان، ثمة ما يعطي ويجزل العطاء وغيره ما ينفث السموم محاولا تخريب ذاك العطاء الثري، مسارات تضيف وأخرى تزرع الرعب والخوف.