صدر مؤخراً للكاتب ناصر أبو عون كتاب (عشبة جلجامش .. جماليات الإيقاع في شعر عبدالرزاق الربيعي) عن الدار الأردنية "كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع"، في 192 صفحة من الحجم المتوسط، سعى إلى دراسة النصوص الشعرية للربيعي والاتكاء على (البنيوية التكوينية) كمنهج أساس في تحليل ودراسة الشعر العراقي المهاجر اعتماداً على منهجية لوسيان كولدمان السوسيولوجية التي ترى أن العمل الأدبي أو الفني عمل كلي، ودراسته كبنية دالة كليا. مستنداً الكاتب في ذلك إلى توجيهات المنهج التكاملي.
الإصدار عمد إلى تحليل النص بطريقة شمولية، عبر تحليل بنياته الصغرى والكبرى من خلال تحليل عناصره الفونولوجية والتركيبة والدلالية والبلاغية والسردية والسيمولوجية، مع الالتزام بمضامين النص دون تأويله أو التوسع فيه، انتقالاً إلى تحديد البنية الدالة وهي مقولة ذهنية وفلسفية تستخلص من كلية العمل الأدبي عبر توارد ثيماته المتواترة.
في غلاف الكتاب يقول المؤلف: إذا كان الباحثون يتفقون على أن الإيقاع هو حركة منتظمة متساوية ومتشابهة، ويتميز بالتردد الكمي للحركات فمن أجل أن نميز التفاعيل بعضها عن بعض لا بد من تلك الظاهرة الصوتية التي تتردد بين تفعيلةٍ وأخرى. إن شعر عبدالرزاق الربيعي يمكننا تصنيفه ضمن قائمة "شعر القضايا الكبرى" لأنه يشكل علامة فارقة بين الشعريات الثمانينية المتباينة والمتقاطعة والمتداخلة والخلافية التي تنسج شعرية هذه المرحلة العراقية والظرف السياسي الواحد أو ما يسمى بشعرية المرحلة الموجة الثالثة في خيط زمني واحد ومأساة واحدة؛ يمكننا أن نطلق عليه تجاوزاً وليس من قبيل المبالغة مقولة "شعر القضايا الكبرى" اتكاءً على اشتغاله على اللغة وإبداعه فيها خلافاً لشعريات اللحظات الخاصة واللاوعي التي تسيطر على غالبية المنتوج الإبداعي لهذا الجيل.
وأشار أبو عون إلى أن النص الشعري لعبدالرزاق الربيعي يلتقي مع شعرية خليل حاوي في الانتباه إلى الدوائر النصية التي تتحرك فيها وروابطها العميقة؛ وهي دوائر دلالية ووجودية، يبلورها الشاعر في كلمات مقطرة، لقد نجح الشاعر عبدالرزق الربيعي عبر قصيدة (الملتيميديا الشعرية) أو (الفوتوشعرية) في إخضاع عملية الإبداع الفني داخل القصيدة لهندسة محسوبة؛ فكيان القصيدة لديه ـ كما خليل حاوي ـ يتجسد في حركات منتظمة، يحددها نسق كلي متضافر، بالاعتماد على قدر واضح من التشكيل الحسي للأصوات والأقوال فيظهر الكيان المادي للقصيدة عبر عمليات صياغة الجمل وترتيب المقاطع وتحديد المنظور والتصفير المتقن للوحدات الجزئية.
يتميز الإصدار بجمالية التحليل، وعمقه وغزارة المعلومة التحليلية ودقة الاستنتاج وإبراز المناهج النقدية المستخدمة، مع بساطة اللفظ وانسيابيته وظرف الكلمة ولطافة المعنى، فعن عن قصيدة النثر العربي لدى الربيعي يقول المؤلف: لا تبرز إشكالية قصيدة عبدالرزاق الربيعي من غموضها وصدامها كنوع شعري مختلف وجديد فقط ولكن إشكاليتها الكبرى هي إشكالية عامة تتفرد بها قصيدة النثر العربية التي (تنبع من غربتها في المكان الذي هي فيه، فحضورها هو حضور المستوحش والغريب والضال) وإذا كانت إمكانات قصيدة النثر ممتدة ومخترقة وموصولة بالتطور الطبيعي للأزمة والأمكنة واللغات فإن الحصار واللبس الذي تعاني منه القصيدة العربية هو (نتاج إرث راكمته الظواهر الصوتية واللحنية والشفهية للقصيدة التقليدية). وتستمد هذه التجربة استمراريتها من تواصل الذات في مواجهة العالم، والسعي إلى خلق عوالم متخلية تضاهي العالم الحقيقي ووصف علاقات وهمية بين شخصيات ورقية لا وجود لها خارج الصفحات.
هدف أبو عون في عشبة جلجامش لسبر أغوار منهجية القراءة باستفاضة، معرجاً على أسفارٍ شعريةٍ ثلاث: سفر التكوين (المرئي والمكتوب.. دراما الصورة الشعرية)، وسفر الخروج (البنية الإيقاعية والأبعاد الجمالية والتكوينية)، وسفر الشتات (سيدوري ومحاولة لإعادة إنتاج الأسطورة)، وصولاً إلى الاستنتاج الواصل إلى الشاعر الاستثناء عبر قوله: إذا نظرنا إلى عبدالرزاق الربيعي من زاوية التفرد والابتكار الإبداعي بين أبناء جيله من شعراء الثمانينيات العراقي، وإنتاجه الشعري والمسرحي، ومقالاته الصحفية التي تتميز بملامح فنية تحتاج إلى دراسة منفصلة تشتغل على مقاييس الإبداع في التحرير الصحفي فإن ملامح العبقرية تتبدى في خلفية نصوصه الشعرية، وتشي بروح متمردة على الشكل والمضمون وحيادية اللغة.