من أوائل شعراء شبه الجزيرة العربية
تاريخ أية حضارة هو تاريخ شعرائها وكتابها وأدبائها ، هو تاريخ سيرة الإنسان في تلك الأرض ، وإذ كان ما تم تشييده وبناؤه هو من الشواهد على أصالة أية حضارة فإن ما يتم تناقله عبر ذاكرة الناس الشفهية أو توثيقه في الكتب والمراجع يعد الوجه الآخر لمعرفة الحقيقة ..

عُمان التاريخ
عمان هي السيرة الشيّقة لتاريخ طويل من حضارة عربية أصيلة ، حضارة استوعبت تعددية بيئية فاتنة ، شكلتها طبيعة الجغرافيا العمانية ، فالتاريخ هو ابن الجغرافيا ، حيث أن الجغرافيا التي تحدد ملامح الأرض تحدد وجهة التاريخ ومساره فيها. الصحراء الشاسعة اللاّمنتهية وآثار أقدام البدويّ المطبوعة على الكثبان المتحركة ، والجبال السمر الشاهقة حيث نحت فيها العماني سكنه ومزرعته الصغيرة وقبره، والبحر الذي أصبح جسرا لنقل تاريخ من المجد والبطولات إلى أماكن قصيّة ومجهولة ، كل هذا عمان ،عمان التاريخ.. إنه لمن المؤسف أن لا يدوَّن التاريخ العماني بإنصاف ، فالمصادر قليلة والمراجع نادرة وتكاد لا تخرج عن مواضيع متشابهة ما بين دينية وسياسية وفي أغلب الأحيان تكون مشتركة ، لذا سقطت من ذاكرة تاريخ عمان الكثير من الأسماء الأدبية ، ولعلّ التاريخ الشعبي كان هو المتأثر الأكبر من طبيعة هذا التوثيق والتدوين ..إن أكبر دليل على أصالة الشعر الشعبي العماني أن تكون أول قصيدة مدوّنة في تاريخ الشعر الشعبي في شبه الجزيرة العربية هي قصيدة بعثها شاعر وأمير عماني وهو قطن بن قطن الهلالي إلى شاعر آخر هو صديقه.

من هو قطن بن قطن

إن اسم الشاعر قطن بن قطن كشاعر عماني عاش في العصر التاسع أو العاشر الهجري قد ورد في مصادر كثيرة ..
ومن التعريفات التي وجدتها في المواقع الإلكترونية وهي كثيرة أجتزئ لكم هذا التعريف: هو شاعر علم من قدماء شعراء النبط ،عاش ما بين القرن التاسع والعاشر الهجري ، ذكره عبدالله الخالد الحاتم في كتابه (خيار ما يلتقط من شعر النبط) حيث قال : هو من أمراء عُمان وشعرائها ،سار شعره على الطريقة القديمة لنظم الشعر الشعبي ،طريقة بني هلال ، وهو من شعراء الفترة التي تليهم ويعتبر شعره امتداداً للشعر الهلالي القديم (انتهى).
ولقد بحثت في الكتب والمراجع فوجدت شاعرنا مذكورا في كتاب (أزمة الشعر الشعبي ومحاولات الحداثة) للشاعر والكاتب : فهد دوحان ، حيث نقل المؤلف عن عبدالله خميس من كتابه (الفصحى ونظرية الفكر العامي ) ما يلي : "وأقدم من دوِّنت أشعارهم ، راشد الخلاوي ، وابو حمزة العامري من أهل الإحساء ، وقطن بن قطن من أهل عمان ،وقد عاش هؤلاء في القرنين العاشر والحادي عشر من الهجرة ، وكانوا ينظمون الشعر الشعبي على أوزان الشعر الفصيح وتفاعيله وبحوره ، ولا يقيمون الإعراب لفساد اللغة " (انتهى)، كما جاء في الكتاب أن هناك مطولات معروفة يتناقلها بدو شبه الجزيرة العربية وقد أصبحت بحكم المعلقات ومنها مطولات (قطن بن قطن ، والكليف، ورميزان)..

المراجع العمانية

أما في المراجع العمانية فيرد ذكر شاعرنا على أنه: قطن بن قطن من الهلاليين الجبور المنشقين عن إمامة الأمام ناصر بن مرشد راجع ابن رزيق صاحب كتابي ( الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان ) و( الفتح المبين في تاريخ السادة آل بوسعيديين ) وقد دارت بينهم ـ أي الهلاليين - والإمام ناصر بن مرشد معارك كثيرة كان منها ما جاء عند السيابي والذي أنقله لكم من مقال للكاتب سعد الحافي من (جريدة الرياض السعودية العدد رقم: 14306 )حيث جاء في هوامش المقال من تعاريف الشاعر قطن بن قطن ما يلي : - هو الشاعر قطن أو والده قطن بن قطن بن علي بن هلال بن سيف بن زامل بن جبر من بني عقيل، وقد جاء عند السيابي في أحداث سنة 1026هــ هذا النص النفيس "وذهب إلى آل قطن بن قطن وكان الأمير فيهم يومئذ ناصر بن ناصر، واستصرخهم لنصرة قومه المحصورين بحصن (ينقل) فلبوا دعوته وثار ركب منهم يقوده محمد بن محمد بن محمد بن جيفر، وعلي بن قطن بن قطن بن قطن بن علي بن هلال، وناصر بن ناصر بن ناصر بن قطن، بمن معهم من الرجال الذين هم أبطال الرجال، وكانوا ببادية الشمال" ويفهم من هذا النص أن قطن أو والده قطن بن قطن من أهل القرن العاشر الهجري، وان مكان تواجدهم ببادية الشمال أي شمال عمان، وقد أورد السيابي بعض الأحداث التي ترصد تواجدهم في منح وصحراء يبرين (انتهى).
كما جاء في مؤلف (سيرة الإمام ناصر بن مرشد ) لعبدالله بن خلفان بن قيصر ذكر لاسم ناصر بن قطن الهلالي وأغلب الظن إنه أخو شاعرنا قطن بن قطن واجتزئ لكم هذا:
ثم إن مولانا إمام الزمان جهز جيشاً من الباطنة إلى عمان ، فأمر واليه سعيد بن خلفان وعضده حينئذ بالجبري عمير ، وهو ابن محمد بن جفير ، حتى أتوا إلى مورد يقال له دعفس ، ....، طلباً لإبل ناصر بن قطن من آل هلال ، فوجدوها سائحة هنالك بناحية من الشمال ، فأخذوها ورجعوا ناحية من الشمال آمنين فرحين بنصر الله وبما ظفروا به غانمين"(انتهى).
كل ما ذكرناه يدلُّ على أن الشاعر قد عاصر فترة حكم الإمام ناصر بن مرشد اليعربي أي في القرن السابع عشر الميلادي ، والمعروف أن جلّ ما دونه العمانيون من شعر في هذه الحقبة التاريخية كان يختص بالشعر السياسي والديني فقط مع تعصب شديد للغة الفصحى ، لذا فإن الشعر الشعبي كان منبوذا مع الأدباء والموّثقين ومع رجال الدين والسياسة، ولهذا لم يُذكر الشاعر العماني قطن بن قطن في المصادر العمانية كشاعر شعبي رغم أنه عاصر راشد الخلاوي ومحسن الهزّاني وهما من كبار شعراء الجزيرة حينها ..

قصيدة العليمي لصديقه قطن

صادفت في بحثي عن الشاعر قراءة قصة شعبية ممتعة بطلها محمد العليمي الذي استنجد بشاعرنا بقصيدة استغاثة ونجدة ليسترد زوجته التي أخذت منه عنوة فلبّى الشاعر نداء صديقه وحل معضلته ،وقصة العليمي وقطن بن قطن مشهورة ومعروفة خاصة عند البدو سكان شبه الجزيرة ..وأنقل لكم بعض الأبيات من قصيدة العليمي كما جاءت في مقال الباحث والكاتب السعودي سعد الحافي (بجريدة الرياض العدد 14908)

يا زايري في عمانٍ قبل ينجالي
جنح الدجى والملا في النوم ذهالي
يا مرحبا بالذي قد زارني وهن
جنح من الليل عندي طارش غالي
يا طول خطوتك من نجدٍ الى منح
ودونك أراضي قفرٍ صحصحٍ خالي
وانا بديرة عمانٍ عنك منتزح
وانته بوادي حنيفه عالي الاوشالي
حي الله الذي سابي قلبي مودته
وفي فؤادي على فرقاك ولوالي
حيه ولا تجعله اتلا مواصل له
ثم اجعله اولي ما يازي التالي

يندبن سور الظعن قطن ولد قطن
موزي كماة العدا قصاف الاجالي
ملك عطاياه جرد الخيل ملبسه
مع كل ابجر عطعاطٍ وصهالي
والحمر والنمر صفطٍ من وهايبه
وهجاهج الهجن منسوبات الاصالي
دامت تحاضيه في دنياه أربعه
عزٍ و نصرٍ وتوفيقٍ واقبالي
ولمن يعاديه في دنياه أربعه
قلٍ وذلٍ وتنغيصٍ واخذالي
ثم الصلاة على المختار سيدنا
ما لاح برق بمزنه يشعل اشعالي

قصيدة اللغز والرد

تتفق جميع المصادر على أن قصيدة اللغز التي بعثها الشاعر قطن بن قطن إلى أبي محمد ابن بسام هي من أقدم القصائد المدوّنة في تاريخ الشعر الشعبي وأقتبس لكم ما جاء في كتابة الباحث السعودي سعد العبدالله الصويان (الشعر الشعبي ذائقة الشعب وسلطة النص)، يقول الصويان : في كتابه يورد الحاتم (1952، ج1: 41-45) قصيدتين متبادلتين الأولى قالها قطن بن قطن شحنها بالألغاز وبعث بها، حسب رواية الحاتم، إلى ابن بسام في عنيزة. يبدأ قطن قصيدته قائلا:

يابو محمد لا فجتك مصيبه
طيب الزمان في رغد ما ريت شر

ولما وصل نجاب الأمير قطن إلى البلد ذهب إلى السوق حاملا القصيدة وسأل عن ابن بسام فقالوا له إنه خارج البلد ودلّوه على ابنه الصغير الذي علم من النجاب أن قطن مستعجل على الرد على قصيدته. فطلب الصبي من النجاب أن يسمعه القصيدة ثم قام بالرد عليها وهو واقف في مكانه في السوق مع النجاب الذي لم يحط عن راحلته بل أخذ الجواب على القصيدة وعاد من توه إلى عمان. وبدأ ولد ابن بسام الرد بقوله:

ياراكبٍ من عندنا منجوبه
من ساس هجنٍ كنها ظبيٍ عفر

ونورد بعضا من أبيات القصيدة كما نشرها الحافي (بجريدة الرياض العدد رقم 14306 ) :

يا أبو محمد لا فجاك مصيبه
طول الزمان في رغد لا ريت شر
يا من على كل البرايا بين
وعلى جميع الخلق بالعلم اشتهر
انشدك عن انثى تعاشر مالها
ذكر يجيها واصل ما تلد الذكر
وأنثى فلا تظنى ولا يظنى لها
طول الزمان ولبسها ثوبٍ حمر
وانشدك عن انثى وهي سياره
دليلها مع دربها طول الدهر

ورد عليه ابن بسام بقصيدة منها :

يا راكبٍ من عندنا منجوبة
من ساس هجنٍ كنها ظبيٍ عفر
قوداء هميمٍ من بنات عثافر
مامونةٍ ذا تو فاطرها فطر
سرها رعاك الله يومٍ كامل
ثم اسقها تالي النهار من الحفر
فالى لفيت وجيت صوب قبيله
ترعى نبات الارض مختلف الزهر
سلم عليهم لا لفيت بظلهم
من غايبٍ منهم ومن هو قد حضر
واختص لي قطن برد التحية
ذباح للخطار نابية الظهر
قله لفاني من قبالك صايب
عسرٍ ولالي عن مقاضاته مفر
نشرتها للعالمين بمعرفة
واطلقتها طلق الشديد من الوسر
تنشدني عن انثى تعاشر مالها
ذكر يجيها واصل ما تلد الذكر
هذا عقاب الطير كله اناثي
ولا تستحظ من التساقي ذا الخبر

لاشك أن حياة الشاعر قطن بن قطن تحتاج للبحث والتدقيق كما تحتاج لجهد كبير حتى نجمع خيوط حياة هذا الشاعر الذي أشتهر صيته كأقدم الشعراء الشعبيين في شبه الجزيرة العربية ، كما أن وجود هذه الشخصية الحقيقية هو دليل قاطع لكل من يشكك في عمق وفرادة وتاريخ الشعر الشعبي في عمان .. أن التاريخ الشعبي العماني - ما زالا- كنزا ثريا يحتاج منّا إلى التفاتة جادة وواعية وصادقة ، وأن نهبهُ الوقت والجهد حتى نحصل على الثراء المعرفي الخالد..

حمد الخروصي
twitter@ hamed_alkharusi