إننا ونحن نعيش عصر المتغيرات في كل جوانب الحياة لدرجة أننا أصبحنا نرى الأصل غريبا والتراث جديدا والأصالة حداثة، وقد يستغرب البعض من هذا التقديم ولكنها الحقيقة التي أصبحت طاغية على الحياة التي نعيشها، فالمجتمع يعيش حالة من الغربة التي وبسبب ما أصبحنا عليه اليوم من استيراد لكل شيء، فأصبح الحب غريبا، والعشق ظاهرة حديثة، والحنين تمجيدا للماضي، ولهذا نحن بحاجة إلى من يعيد للحياة أصلها، وللحب بريقه وصفاءه ونقاوته، وللعشق رقته وعذوبته، وللحنين جماله وبهجته.
ونقرأ اليوم ديوانا شعريا للشاعرة شُميسة النّعمانية بعنوان:" ما تبقى من اللون" - احتفاءً بها وبه - الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي في طبعته الأولى 2014م في بيروت، وبدعم من وزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان ، فقد تضمن الديوان 26 قصيدة كلها خرجت عن الشعر العمودي، وتنوعت بين الوطنية والغزلية والنطاق الاجتماعي وغيرها، وهذه النصوص هي:دندنة، صورة، وداعية عاشقين، طواف، هلا تخبئني؟، كوم خرافي، إني كتبتك وانتهى، نام الشبيه على الشبيه، ولكم عشقتك، عروج إلى غزة، هاك أرغفة الصباح، زلفى إليك، سبحانه البحر، ألم تر؟، كل الملائك في يديك، غضب، حين اجتازوا النهر إليك، سفر، حنين، ثلاثية الحب، شظايا، تذكرة، مبتدأ الصبح.. بعد الزنازين، أينما وجهت وجهي، قيل عن بعض الرجال!، مساء لمسقط.
وإذ نتوقف للقراءة في هذا الديوان الذي يعد حقا أنموذجا رائعا لمحور حديثنا وهو الحب والعشق والحنين المتمثل في كل قصائد الديوان، وإن تعددت أو اختلفت درجة اللون فهو صوت قادم بقوة المعنى وجمال اللفظ ودقة الوصف وثراء المغزى قالت شاعرتنا:

تتموَّج الألحاظُ والطيرُ المسافرُ
والزخارفُ بالسقوفِ
ودربُ أغنيةٍ وموسمُ نخلةٍ
والشمسُ لا تجري
وصوتُ الريحِ دندنَ في الدفوفِ
عن المخبَّأ في يدي:
"الحبُّ"

إنه بقايا اللون الذي يحكي لنا الصوت والصدى، إنه الجمال الممتد في معنويات هذه البقايا، والذي يتجاوز الماديات والمحسوس، لذلك هو الباقي الخالد بكل ألوانه التي لا تزال جميلة مهما خفتت ومهما تعددت نظل نعشقها قالت شاعرتنا:

أيُّها الأشباه مثلي
كان صوتي في فتاة عشقت ظل غمامة
غنّت اللحنَ
وظل الغيمُ يستسقي من اللحن هيامه
وارتواها
ثم فاض اللحنُ من أعذب ماها

وقد يطوف المحبُّ طوافا يجد من الألوان ما تجعله يتوقف أحيانا ويعبر أحيانا أخرى، لا يتوقف إلا بالحبِّ، ولا يعبر إلا به، فالحبُّ والعشقُ يوقفانه أو يتركانه يعبر، والحنين إلى التوقف أو العبور يلازمهما دائما، ففي طواف الشاعرة ما لا يعد ولا يحصى من الصور الإبداعية الغنية جدا بالحركة والصوت واللون، قالت الشاعرة:

وكم طائف بالقلب ما نال حجةً
وأنت بــلا طوفٍ تحجُّ وتعـمــرُ
وتسعى بأشواطٍ من الوجدِ والهوى
وغيركَ يسعى، لا يمرُّ وتـعـبُرُ
وترمي ثلاثاً بـالصَّبابةِ أضلعي
فنـذوي من الجمـراتِ وهي تُسعَّرُ

تتعدد ألوان الحنين ولن يبق منها إلا لون واحد، وتتعدد المشاعر وتختلط ولن يبقى منها غير ذلك الشعور الجميل الذي لا يمكن أن يوصف أكثر من كونه حنينا، حنينا إلى الروح، إلى المكان، إلى الزمان، إلى الشخوص، إلى الجمال، إلى الوطن، إلى كل شيء جميل تتلذذ منه أرواحنا وتكون حوله ألوانا غير متناهية، وربما بعض الهلاميات التي تشعرنا برحلة داخل النفس، يقودنا الحنين إلى حيث الحلم وحيث الخيال الخصب وحيث مكونات الذاكرة وصورها المنبعثة بالألوان التي تكونها وتبث فيها الحركة، ليعظم نحتها في القلوب قالت شاعرتنا:

ما بالُهُ هذا الحنينُ.. مرابطٌ في ليلتي
ومشاغب في مقلتي
ويغصُني؟
ما بالُه يجتاحُني..
متأبطا حزنَ الأراملِ في مساءاتِ الشتاءِ
وشوقَ جنديٍ إلى حضنِ الحبيبةِ
وانكسارَ العشبِ في فصل الجفافِ
وخطوطَ كفي وهي يخذُلُها الزمن..

إن ما يفعله الحُبُّ في النفس لهو شيء عظيم، ولذلك قيل لا يحب إلا العظماء، فالحب والعشق والحنين أشياء يصعب حملها عند الناس العاديين، ولذلك تراهم يتخلون عن هذا الحمل ويتركونه خاويا كما يتركهم خواء، إن الحب شظايا لحامله بكل الألوان، شظايا بألوان محسوسة وألوان غير محسوسة؛ فالمشاعر مهما كانت ملونة بمختلف الألوان يظل لها اللون الذي يزيد من هذه الشظايا أو يقلصها، قالت شاعرتنا:

تشظيتُ في الحُبِّ كالزاهدين طويلاً عن الماءِ
كالغائبينَ عن الله
كالميتين بحُضن الغريبِ
وكالتائهينَ
ومثلي
شظايا.. شظايا

وكذلك نلاحظ هذه المشاعر وهي تختلط مع جميع الألوان ليبقى لها لون واحد في كل الأنساق، إنه الوجد والشوق، إنهما الحُبُّ والعشق دائما ما تعزفهما هذه الألوان لتكون لون الحنين، لون اللوعة في الفراق واللوعة في الشوق واللوعة في الغربة واللوعة في كل هذه المشاعر الفياضة المتجذرة والتي تبثها النفس شظايا شظايا، ولا ريب أن هذه الألوان أدركتها شاعرتنا فأتت بها كما وجدتها لتنقلها لنا مثلها كالصورة الحقيقية بل تعزفها لنا مقطوعة موسيقية رائعة، قالت شاعرتنا:

تشظيتُ كالبنتِ
تخشى من الحُبِّ إن هبَّ يوماً عليها
تكفِّنُهُ في السراديبِ ثم تحنُّ إليهِ
ولات حنينٍ
وقد فتَّتَ الدهرُ ما قد تبقى من الطين والرمل
إلا زماناً من الحُبِّ يأتي شظايا.. شظايا

إن تجربة الشاعرة في الحب والعشق والحنين ليست محصورة على المستوى الشخصي أو النفسي فقط، بل خرجت من هذا الإطار لتتشارك مع الوطن ومع العاصمة مسقط، كل الوطن بأرجائه ورحابه وعرصاته وقيعانه وفيافيه مع الدرة الجميلة والمدينة المعشوقة مسقط؛ فقد يكون فضاء أكبر لكل هذه الوجدانيات التي وجدت شاعرتنا ضالتها من خلالها، وذلك لبث هذه المشاعر بأكثر من لون، لتنتج ألوانا أخرى جميلة ومندمجة ومترابطة لتشكيل هذه اللوحة الفنية الرائعة حيث قالت:

كُلِّي أتيتُكَ عاشقاً متلهفاً
من مقلتيكَ أصبُّ لحنَ قصيدتي
في خافقيكَ أمدُّ دربَ مدينتي
يا موطني
إنِّي كأقدارِ المسافرِ أقتفي وجعي إذا يوماً تركتُك
وَلَكَم عشقتُكَ!

وعندما نتأمل الألوان في مسقط لا صورة تبقى إلا وتأتي من تلك الجبال الشامخة فيها، والمحتضنة زرقة البحر، فقد ينمو ذلك الحُبُّ والعشقُ في كل القلوب التي تسكن مسقط أو تزورها، فلا يدخلها قلبٌ إلا وراوده الحنينُ إليها، قالت شاعرتنا:

مساءٌ لمسقط
ومسقطُ صوتُ رسولً يُؤَذِّنُ من قُبَّةِ الشمسِ:
حيَّ على الحُبِّ لا دربَ إلا إليهِ
وحيَّ على النورِ يصعدُ في مُقلتيَّ اليمام
يرشُّ على الناس ضوءَ الصباحِ

إنَّ ما تمثله حقيقة الألوان في الحبِّ والعشق والحنين عند شاعرتنا في هذا العرض والاحتفاء بهذا الديوان الجميل تجعلنا ننصت لصوت مختلف من الإبداع جرى على غير المألوف في التعرض للون، وقد ذكرني ذلك بالدراسة التي قدمتها لجامعة نزوى لاستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها والتي طبعتها في كتاب بعنوان: العبودية وأثرها في شعر عنترة حيث درست اللون عند عنترة مع الحركة والصوت فكان ممتعا، وإن هذا التذكر جعلني أنصت للنص عند شاعرتنا القادمة بقوة الكلمة من خلال اللون، ولك عزيزي القارئ أن تتصور جمال هذه الألوان في هذا النص الذي نختم به هذا الاحتفاء الممتع لهذا الديوان الرائع قالت شاعرتنا:

ومسقطُ خارج تصنيف لونِ الرمادِ
فإن قيلَ " مسقطُ " طارت فراشاتُ بيضاءِ..
حمراءَ.. خضراءَ
حتى النجوم اِقتفتها لتحطبَ من لونِها الكبرياء

ناصر الحسني