الحملة الفارسية ـ البريطانية ضد مهنا الزعابي
تتبعنا في الأعداد الماضية أوجه الصراع بين القوى الاستعمارية في منطقة الخليج ، خاصة الكبرى منها والمتمثلة في كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا، ونستكمل في هذا العدد استعراض هذا التنافس والمقاومة العربية له في منطقة الخليج.

قدم البريطانيون مساعدة عسكرية كبيرة لحكام فارس لبسط نفوذهم على الأقاليم والجزر العربية في الساحل الشرقي من الخليج العربي، والتخلص من الاضطرابات والثورات العربية التي كانت تجتاح فارس، وبالتالي تؤثر على المصالح البريطانية وتجارتها في المنطقة، ومقابل المساعدات العسكرية البريطانية منح كريم خان الزندي شاه فارس ميناء بوشهر عام 1763م للبريطانيين، لإقامة قاعدة بحرية للأسطول البريطاني ووكالة تجارية ومقيمية سياسية في الخليج العربي. ويمكن تسمية تلك الفترة مرحلة بوشهر التي استمرت قاعدة للنفوذ البريطاني السياسي في الخليج العربي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، أو على وجه التحديد عام 1946م عندما انتقلت إلى البحرين.
تغيرت الامتيازات البريطانية السابقة بعدما صادق كريم خان الزندي شاه فارس على اتفاقية انشاء المقيمية البريطانية في بوشهر، وأصبح ذلك نموذجاً للتنازلات الأخرى التي منحها للبريطانيين في المقاطعات الفارسية الأخرى، ويمكن القول بأن اتفاقية بوشهر أصبحت أساساً لجميع المعاهدات والامتيازات التي يتمتع بها الأوروبيون في الولايات العثمانية، وإن تميزت فارس بمنحها المزيد من الامتيازات العسكرية والتجارية بسخاء كبير للأوروبيين وخاصة البريطانيين، وتأكد ذلك بفرمان أصدره شاه فارس نص على منح البريطانيين الحق في إقامة مقيمات تابعة لهم في جميع الأراضي الفارسية إنطلاقاً من تقديره وصداقته للاستعمار البريطاني، الذي ساعده في القضاء على المقاومة العربية في الساحل الشرقي من الخليج العربي، وأصبح ميناء بوشهر منذ عام 1763م المركز الرئيسي الاول للتمثيل البريطاني في منطقة الخليج العربي، والذي اتخذ في البداية طابعاً تجارياً، ثم تطور بعد ذلك لكي يتخذ طابعاً سياسياً، ثم أصبحت له سلطة عسكرية، بعدما أخضع الأسطول البريطاني في الخليج العربي لإرادته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
بذلك تحالف كريم خان الزندي شاه فارس مع أشد أعداء العرب في الخليج العربي، ألا وهو الاستعمار البريطاني الذي كان يتطلع بعدما تخلص من منافسة الهولنديين إلى توطيد أقدامه في الخليج العربي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد راح عدد من الخونة العرب بدافع الأطماع، وبإغراء من البريطانيين وجواسيسهم يستعدون للتخلص من الشيخ مهنا بن ناصر، ويضعون رجالهم وأسلحتهم في خدمة الأطماع الفارسية والاستعمار البريطاني معاً، علماً بأن الحملات الفارسية – البريطانية المشتركة كانت تهاجم المواقع العربية قبل ذلك التاريخ. ولكن بعد تحرير الشيخ مهنا بن ناصر جزيرة "خرج" عام 1765م تزايدت الحملات المشتركة ضده، وأصبح هذا الشيخ بعد الانتصار الكبير على الهولنديين يسيطر على الملاحة في الخليج العربي، بعد أن أتخذ من القلعة التي طرد الهولنديين منها مقراً لعملياته البحرية ضد الفارسيين والعثمانيين والبريطانيين جميعاً.
هذا ما دفع القوى المناهضة للشيخ مهنا بن ناصر إلى توحيد جهودها للتخلص من نشاطه، وخاصة أنه أثار قلق العثمانيين والفارسيين بمطالبته بعربستان، كما أثار قلق البريطانيين بسيطرته على الملاحة في شمال الخليج العربي، مما دفعهم لتوحيد جهودهم وتوقيع اتفاقية مع كريم خان الزندي شاه فارس عام 1767م، والتي نصت على مساعدة البريطانيين لفارس في التخلص من الشيخ مهنا بن ناصر، مقابل احتلال البريطانيين لجزيرة خرج، ورغم التحالف الذي كان بين البريطانيين والفارسيين، إلا أن الشيخ مهنا بن ناصر تمكن من إفشال عدة هجمات مشتركة قامت بها القوات البريطانية – الفارسية ضده.
شنت القوات الفارسية – البريطانية المشتركة هجوماً كبيراً على القوات العربية، ووقع الشيخ مهنا بن ناصر أسيراً في أيدي القوات الفارسية في عام 1769م، إلا أنه استطاع الهروب من الأسر وأن يلجأ إلى الكويت، ومن ثم يعود ثانية إلى ميناء ريق، ويشرع بمهاجمة القوات الفارسية والبريطانية على حد سواء. وجدد الفارسيون محاولاتهم مع البريطانيين لاحتلال ميناء ريق مرة أخرى، فقد أعد كريم خان شاه فارس جيشاً قوياً وأسطولاً مؤلفاً من عشرات السفن، إضافة إلى الأسطول البريطاني، وتم إنزال القوات إلى بر الجزيرة، وأمام هذا الهجوم الفارسي – البريطاني المشترك الكبير، انسحب الشيخ مهنا بن ناصر ورجاله إلى جزيرة "خارك" الصغيرة حتى إذا ما انسحبت القوات الفارسية والبريطانية المشتركة، ارتد الشيخ مهنا بن ناصر وقواته إلى جزيرة ريق، فهاجموا الحامية الفارسية والبريطانية، وحرروا الجزيرة وأعادوها عربية خالصة مثلما كانت عليه من قبل.
استمر القتال في البر والبحر لمدة سنتين، ولكن الشيخ مهنا بن ناصر استطاع بدهائه وحنكته وبسالة رجاله من القبائل العربية، أن يصمد أمام المهاجمين في كل مكان حاولوا اقتحامه، وأن يرد هجماتهم الواحدة بعد الأخرى، مما يدل على تعلق العرب باستقلالهم وحريتهم، ومدى الصمود في الدفاع عن أراضيهم وسيادتهم مثلما كانت شجاعة شيخهم مهنا بن ناصر وحنكته في الحرب، فقد كان ينتقل برجاله من موقع إلى آخر، دون أن يمكن العدو المهاجم من إيجاد موطئ قدم له في أي مكان يحاول الوصول إليه.
دفع هذا الفشل القوات المشتركة الايرانية – البريطانية إلى انتهاء سياسة جديدة، وهي زرع الفتنة بين أنصار الشيخ مهنا بن ناصر والتسلل إلى جنوده وتحريضهم ضده، واستغل البريطانيون في ذلك القسوة التي كان عليها الشيخ مهنا بن ناصر، واعتمدوا على بعض ممن كانوا أعداء له، والمتمثل في كل من الفرس ومشايخ آل مذكور خاصة في البحرين وكذلك الشيخ خليفة حاكم الكويت، مما أدى إلى تراجع قوة الأمير مهنا الذي بدء يفقد السيطرة على الوضع ، نتيجة الضغوطات والحملات العسكرية التي واجهها من مختلف الجهات، والغارات المستمرة على تحصيناته الدفاعية، والههجوم على جزيرة خرج من قبل القوات الفارسية والانجليزية.
ونتيجية لهذه الضغوطات التي واجهت الأمير مهنا ، حاول طلب المساعدة من الشيخ ثامر الحسيني شيخ المنتفق، وتوجه إليه بالفعل، ولكن المفاجآة الكبيرة تمثلت في أن الوالي العثماني على البصرة كانت لديه معرفة بتحرك الأمير، فأرسل عدة جنود تمكنوا من القبض عليه، ومن ثم سجنه وشنقه، لتنتهي سيرة هذا الأمير الذيس تمكن من الحاق الكثير من الخسائر ببعض القوى الاستعمارية وحلفائها في المنطقة.

محمد بن حمد الشعيلي
أكاديمي في الجامعة العربية المفتوحة
[email protected]