تنطوي كتب اللغة والمعاجم في تضاعيفها على ألفاظ تكاد تتأبّى على الحصر والعدّ، تدور كلها حول مفهوم الزمن وتقسيماته عند العرب ، وهذا ينبئ عن قيمة الزمن وأثره في حياة السلف ، ويفسِّر تسمية بعضهم للعربية بلغة الزمن ، من ذلك مثلاً تقسيم ساعات النهار: الشُّرُوق ، ثم البُكُور ، ثم الغُدْوَة ، ثم الضُّحى ، ثم الهاجِرة ، ثم الظَّهيرة ، ثم الرَّواح ، ثم العَصْر ، ثم القَصْر ، ثم الأصيل ، ثم العَشيّ ، ثم الغُرُوب... هذا فضلاً عمّا لساعات الليل من تسميات حيث يبدأ بالشَّفَق ، ثم الغَسَق ، ثم العَتَمَة ، ثم السُّدْفَة ، ثم الجَهْمَة ، ثم الزُّلَّة ، ثم الزُّلْفَة ، ثم البُهْرَة ، ثم السَّحَر ، ثم الفَجْر ، ثم الصُّبح ، ثم الصَّباح . كما خلعت العرب على الزمن من الصفات ما لم يقع لغيرهم من الأمم؛ فأخبارهم وأشعارهم؛ ثم مؤلفاتهم ومعجماتهم امتلأت بلغة موحية مثيرة عن الزمان ومصطلحاته وتأويلاتها الفلسفية والفكرية، فضلاً عمّا قيل عن الزمان في القرآن.. وإذا كان أبناء العربية قد تخلفوا عن ذلك في العصور الحديثة فهم يسعون من جديد للحاق بركب الآخر.‏
ومن تلك الصفات : الحَنَادِس أي الليالي المظلمة ، والدَّآديء كذلك ، والجُهْمَة وهي أول مآخير الليل ، والبُلْجَة وهي آخر الليل، والهَزِيع أي جزء من الليل، والمَوْهِن أي نصف الليل .... ومن جملة هذه الألفاظ الكثيرة المعقودة على مفهوم الزمن ، ما هو متقارب في الدلالة على المسافات الزمنية ، أو هي تبدو متقاربة عند بعض الناس ، فلا يفرِّقون في الاستخدام اللغوي لها بين مفهوماتها بدقّة ، كاللَّحْظة والفَتْرَة ، والبُرْهة والهَنِيهة وأمثالها.
أما دلالاتها في كتب اللغة والمعاجم فتتّصف بشيء من التحديد والوضوح لا يصعب إدراكه ، يقال مثلاً : البُرْهَة: المدّة الطويلة من الزمن ، وتلفظ بضم الباء وفتحها ، يقال : أقمت عنده بُرْهة من الزمن ، كقولك أقمت عنده سنة. أما الفَتْرَة فتعني الانكسار والضعف ، وتعني كذلك الزمن الممتد ما بين مجيء رسولين من رسل الله تعالى ... واللَّحْظَة بلا شكّ مأخوذة من عضو النظر ( العين ) ، إذ يقال : لَحَظَهُ ولَحَظَ إليه أي نظر إليه بمؤخّر عينه من أي جانبيه كان ، يميناً أو شمالاً. واللَّحْظَة النظرة من جانب الأذن ، أي هي في دلالتها على الزمن : النظرة السريعة الخاطفة. وأما الوَهْلَة من الزمن فتدل على أوّله : لقيته أوَّلَ وَهْلَة ، أي قبل كل شيء . ولم أقف للهُنَيْهَة على معنى أو أصل واضح صريح في مظانّها المحتملة من كتب اللغة والمعاجم فيما تحرّيت ، لكن وجدت معنى الهَنْء من الليل ، وهو الطائفة منه ، فلعل الهُنَيْهَة مأخوذة من ذلك بعد تصغيرها وقلب الهمزة هاء ، وبذا تكون في مدلولها أقصر من الطائفة من الليل. وقلب الهمزة هاء مألوف في العربية ، يقال من ذلك : أَزِيز الرَّعد وهَزِيزه ، وصَهَلَ الحصانُ و صَأَلَ ، وأَرَاقَ الماءَ و هَرَاقَهُ ، ولعل هُنَيْهَة وهَنِيئَة من هذا .
ومن وحدات الزمن : الساعة ، أي الوقت الحاضر ، وللساعة معنى إسلامي صار يعني القيامة . وفي معجم الصحاح للجوهري ( يقال : عامله مُساوَعَة كما يقال : عامله مُيَاوَمَة من اليوم ) . وتحديدها الزمني بستين دقيقة توليد لغوي عصري حديث ، وكذلك الدَّقِيقة التي أخذت من الدَّق الدَّال على الصوت المسموع الذي يُعيِّن الثواني. ولا يخفى أن اشتقاق الثانية من التثنية ، فأنت لا تكاد تعد الحركة الأولى لما يسمى ( عقرب الثواني ) حتى تُثَنِّي بالثانية . وهذه هي دلالتها في بعض اللغات الأجنبية . وغني عن القول إن هذه الوحدات الزمنية كلها جاءت بلسان العرب ، لا اقتراضاً ولا ترجمة.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
أستاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]