اختزلا للكلمة وإعلاء لصوت الجسد والسينوغرافيا
ولقد تنوعت العروض المسرحية في عصرنا الحالي في موضوعاتها وأساليب إخراجها، فمنها من انتهج رؤية إخراجية تقوم على النص والرؤية الإخراجية المألوفة، في تقديم عرض فرجوي يمتع الجمهور، ويحتفي بالكلمة والصورة، فيما الآخر قدم استعراضا وأداء راقصا .
وهناك عروض اختزلت الكلمة، وأعلت من صوت الجسد والسينوغرافيا، وهذا يتطابق مع موجة العروض الحداثة وما بعدها، حيث يقوم العرض على الإرشادات والتعبير الجسدي والتمثيلي، وبذلك يكون جسد الممثل أهم من النص الدرامي، فالممثل يقوم بجهود استثنائية في التعبير والحركة والإيهام والتشكل البصري الجمالي للوحات العرض. وهذا مما جعل دور المؤلف يتراجع للخلف بينما برز دور المخرج، وظهر ما يسمى (المخرج المؤلف). والذي غالبا ما يستبعد الحوارات السردية ويحولها إلى لغة بصرية، وهذا جعل الكلمة المنطوقة تحتل حيزا بسيطا في إطار العمل المسرحي العام، ويتوافق هذا مع ما دراسات الاتصال الحديثة التي أكدت أن الكلمة المنطوقة لا تقدم سوى نسبة ضئيلة من مجمل عملية الاتصال، بينما تتقاسم النسبة الغالبة اتصالات جسدية والتعبيرات البصرية الحركية.
دونما شك، إن اختلاف مضامين وتيارات المدارس الفنية، يضفى ثراء وتنوعا على الراهن العربي والعالمي، ويعتبر عرض (الهدية الغامضة) الايراني من العروض الاستعراضية الحديثة ، والتي جاءت أقرب حلقات السيرك والعروض البهلوانية منها إلى العروض المسرحية . وهذا العرض عبارة عن "مينودراما" من إخراج وتمثيل الشاب الإيراني ياسر خاصب.
وربما أن تقليص عناصر العرض المسرحي المقدم واقتضابه، جعله يصنف ضمن عروض "مسرح الشارع"، أكثر من كونه عرضا مسرحيا. ولقد اعتمد هذا العرض على فكرة محورية تقول إن الخير مرده إلى السماء، لذا استطاع أن ينتصر على الشر الذي مرجعه إلى البشر !... وهذا فتح آفاق كثيرة لتأويل الصراع الحقيقي لدى شخصية العرض الرئيسية ، إضافة إلى تنامي الصراع مع الذات، فهل هو صراع مع الآلهة "القدر، السماء" أم مع السلطات السياسية- البشرية- و التي أصبحت تحكم العالم .
وهكذا أخذنا العرض في دوامة من التفسيرات والـتأويلات والاسقاطات السياسية ، في حين برز "جسد" الممثل كبطل حقيقي ، حيث بطل العرض في تأدية دوره الاستعراضي الرشيق، القائم على حركات القفز والصعود ، ويمكن مشاهدته وهو معلق بحبل يتدلى من أعلى خشبة المسرح، ليعيش ضغوطات نفسية وأزمات حياتية متباينة ، عبرت عن ذاته الوجودية وسط عتمة خشبة المسرح، وهذا جعل المتلقي يتابع الممثل في اتساق لوني فيزيولوجي ، مع محاولة تأطير الرسالة التي يود الممثل التعبير عنها عبر الأداء التمثيلي والاستعراضي الحركي.
ولقد ظهر الممثل كان وحيدا مما جعل العرض يصطبغ بروح "المينودراما" التي تعتمد على الممثل الواحد ، والذي وقع عليه الثقل الأكبر في تحريك الأحداث ؛ فقد مهمته تقديم عرض مسرحي متكامل، لذا كان عليه بذل مجهود كبير يفوق طاقته الجسدية ، مما جعله يبذل قصارى جهده. بالفعل تمكن الممثل من السيطرة على نفسه، والتشكل حسب الحالة دون أن يكون هناك حوار وهذا جعل المشاهدين يتفاعلون مع الرؤية البصرية الآنية .
دونما شك، إن عرض مسرحية "هدية السماء " اعتمد على اللغة البصرية، في حين أقصى لغة الحوار ، فكانت لغة الجسد والحركات والإيماءات حاضرة مع تناوب اللغة اللونية عبر ألوان محددة للعرض، هي : (الأبيض، الأسود، الأحمر) والتي كانت وسيلة مهمة للتضاد الفكري وكان هناك صراع بين اللونين "الأسود، والأحمر" ....ويعتبر اللون "الأحمر" ذات دلالة مهمة على العنف الدموي الذي لازم الإنسان منذ الأزل؛ فالإنسان في صراع مستمر مع الطبيعة، أقرانه، الأنظمة الحاكمة ، الأزمات الاقتصادية والفكر الاجتماعي ... الأمر الذي ساعد على إثارة خيال المتفرج و جعله يجتهد في قراءة رسالة العرض في أكثر من مسار فكري وسياسي وإنساني.
ولعل دخول الدمية في معمعة الصراع مع الشخصية الرئيسية ، جعل العرض يدور في لجة من التفسيرات المفتوحة للموضوع المقدم ، خاصة عند محاولة أنسنة شخصية الدمية، وتحولها إلى طرف مضاد، فيما أكد هبوطها من أعلى خشبة المسرح صراع بين الخير والشر.
ولعل الصراع بين الدمية والممثل الأساسي، جعلنا نلتفت إلى الواقع السياسي الذي بدأ يأن تحت نير كثير من الضغوطات والمصالح الدولية ، حيث أصبح الإنسان أداة ووسيلة لتحقيق أهداف دموية سياسية، لذلك جعل المخرج نهاية الرجل (الإنسان) على يد الإنسان الدمية (رمز الشر) ... والتي سرعان ما سيطرت عليه وأصبحت ندا له ، وتحولت إلى صراع بين الشخصيتين قاتل ومقتول. وهو صراع يفسر الوجود الإنساني وبواعث الشر داخل الإنسان، بغية انتصار الذات مرة وخسرانها مرة أخرى .
ولقد ساهمت الإضاءة والموسيقى المدروسة في القبض على لجام الرؤية الإخراجية التي اعتمدت على أداء الممثل الواحد، مع الحرص على تحريك بقعة الضوء بطريقة عمودية، متصاعدة من أعلى خشبة المسرح، نزولا إلى خشبة المسرح في الأسفل.و ظل عرض (هدية السماء) الإيراني، محل نقاش وجدل حول انتمائه للفن المسرحي الحديث الأقرب إلى فنون السيرك المدروسة مما جعله يقترب من فنون الشارع السائدة في الغرب . في ظل موضوعه معلقا بمدى فهم المتلقي رسالته خاصة في ظل التطورات الراهنة على الصعيد السياسي الدولي والشرق أوسطي.

عزة القصابية