إسطنبول (1)

في سائر رحلاتي كنت أفتح مخيلتي من بوابة التاريخ جاعلا أمزجة تلك اللحظات التي أعايشها في الأسفار والتي لا يغمض لي جفن إلا عندما أقوم بالتجوال في سائر أرجاء المعمورة بعدما يتخللها سحر المشاهد وغموض بعضها مستطلعا باتجاه ما وصلت إليه هذه الأمم من بواعث الحياة والتي دائما ما أقوم برصدها في أفق رفوف سجلاتي والتي صارت لي نبراسا كلما اهتديت لها عند القيام برحلة ما، كل ذلك بعدما تكبدت مشاق هذه السفرات والرحلات نحو مدن وحواضر آسرة وهي التي حفلت بالمشاهد الجميلة والنفيسة والمناخات والأحوال، وذلك من خلال قطعي آلاف مؤلفة من الكيلومترات وهي من وجهة نظري أراها جديرة أن أقوم بتدوينها ونشرها في نهاية المطاف بين الآنام.
هنا أقول بادئ ذي بدء إني برحت بلدي (عمان) عند الليل حيث كان ذلك باتجاه (إسطنبول) إذا كان للعمر وصول إلى هذه الدار بعدما طار بي الطيران ليلا ممعنا النظر للأسفل حيث النجوم تتلالأ في الطرقات والبيوت وهي التي ازدانت بالمصابيح المضيئة، وإذا ما قدر لي بلوغ ديار تركيا، كان ذلك عند انفلاق تباشير الساعات الأولى من خيط فجر اليوم التالي من مغادرة بلدي، وعلى ذلك رأيت (إسطنبول) من الأعلى على طبيعتها بعدما تناغم القديم مع الحديث مع ميلان مسطحاتها إلى الاخضرار، وإذا ما أسهبت عن مبانيها والتي أرمقها من نافذة الطائرة فهي باتت كالنمل، كما لاحظت أن بيوتهم بنوها على نسق بيوت أوروبا بعدما غطوها بأسقف القرميد الأحمر، وعندما حطت بي الطائرة في مطارهم سجدت حامدا وشاكرالله على وصولي بعدما تعرضنا في الهواء الطلق لمطبات هوائيه رجت الطائرة رجا قويا والتي سقطت على أثرها الحقائب على رؤوسنا.
أما في اليوم التالي من وصولي إليها ارتأيت الخروج من مقر إقامتي بعد ما نالني من تعب رحلة الأمس حيث الركون إلى عدم الخروج لم يتغلب على روح الاستكشاف والفضول الذي كان يدفعني لرؤية (إسطنبول) والتي أبهرتني إطلالتها في هذا الصباح وحفزتني نحو الخروج بعدما بت مفعما بالنشاط والحيوية، لذلك مشيت مشيا لا حدود له حيث رأيت المدينة تدب بالحركة بكل أصناف البشر وهي عامره بالأسواق والمباني التاريخية بعدما تم تعميرها بسواعد أبنائها، كما أنها باتت تنقسم بين شطرين أحدهما في آسيا والآخر في أوروبا، مكملا المشي ومستكشفا في الوقت نفسه جوامعها كجامع (السلطان أحمد) حيث دخلت إليه من بابه الكبير بعدما أودعت حذائي في مكان معلوم فيما كان خلفي عدد من الأوروبيات بعدما التحفن بغطاءا للرأس وهن يهممن بالدخول إلى حرم المسجد، هذا الدخول كان بعدما وجدت نفسي في فناء متسع مفتوح يدخل الزائر تلقائيا متأملا تلك التشكيلات من آيات فن العمارة الإسلامية بعدما أضفى بناؤه روعة وبهاء حيث تبهرك النقوش الدقيقة والتي زخرفت على جدرانه وأعمدته، بعدها ولجت باتجاه (أية صوفيا) وهي درة الآثار البيزنطية وأعجوبة العالم الثالث وإلى (جامع السليمانية) و(البزار الكبير) والأخير هو الذي يحتوي على سبعين بابا للدخول والخروج وغيرها من المعالم، كما يمكن رؤية تهافت الصبية علينا نحن السياح عارضين علينا شراء ما يعرضونه من ملصقات وبطاقات بريدية، ناهيك عن الباعة المتجولين وهم يعرضون علينا شراب الكركديه.
كما أن في حي (السلطان أحمد) بإسطنبول وعلى بعد ما لا يزيد على مائتي متر باتجاه الشاطئ كنت أجول ما بين البيوت العتيقه نصف بعضها أصبحت أخشابها متهالكة بفعل رطوبة البحر والبعض الآخر مغطى وعلى الجانب الآخر سوق الخضار والتوابل حيث تتكدس الفواكه بالقرب من الرصيف فيما الباعة وهم يمارسون عملهم قد أحدثوا جلبة صاخبة بفعل صيحات أصواتهم، وخلال فسحتي في حي السلطان يمكن رؤية آلات التصوير عند السياح وجلهم من ديار أوروبا وهم يهموا بالتقاط الصورة تلو الآخرى، كنت أشق طريقي بشق الأنفس وسط الجموع وأحيانا أتوقف أو أنحني حتى يكمل السائح الصوره التي يلتقطها من عمود مزخرف أو جدار أو حجرا، كانت تستهويهم صغائر الأمور لتوثيق الحدث بعكس ما نحن عليه والبعض منا أيضا كمن لا يحمل معه آلة التصوير عند سفره.
في هذا التجوال يمكن رؤية أيضا الباعه بعد ما افترشوا الأرصفه يبيعون أحزمة البنطال ومنهم القمصان وألعاب الأطفال وإذا ما وددت الارتواء عليك بقدح من الشاي التركي حيث ينتشر الصبيه بائعو الشاي في كل الأمكنه موفرين لنا عناء البحث عن المقاهي، ناهيك عن بائع المحار وهو ينادي على الماره خمس محارات بمليون ليره، أما في الأرصفه المقابلة فإن بائعي الكتب المستعملة لهم نصيب في ذلك، وذلك بعدما فرشوا عليها قطعا من الكرتون متنقلين من رصيف إلى آخر ومن منطقه إلى آخرى حتى تستنفد الكتب، واذا ما ابتعت كتابا منهم، كان ذلك (تاريخ الخليج العربي) بعد ما دون ذلك على غلاف صفحته.
أما (إسطنبول) الحديثة فباتت تضم بين دفتيها مدن (تاكسيم) والوصول إليها يكون عبر جسر (غلطة) وقد جلس الناس على جوانبه بعدما رموا سناراتهم كي يصطادوا ما جاد به بحر هذا المساء، أما الجسر الآخر فهو مضيق (البوسفور) والذي بات ينقل الناس بين الجانبين من آسيا إلى أوروبا، أما المطاعم والمحلات الفاخرة فكانت تنتشرعلى طول الشارع الرئيسي (استقلال جارجي)، بعدها قادني المشي بين الأزقه والشوارع بعد ما تكشفت لي روائح السمك حيث كانت تفوح رائحة شهيّه بالبهارات التركية.
وخلال تواجدي في (إسطنبول) كنت دائما بعد تأديتي لصلاة العصر بأحد الجوامع أطلق عناني بالمشي والتنزه بشكل دائم، وذلك منذ وصولي إليها مبتاعا في الوقت نفسه سمكا مشويا على الفحم مضافا إليه رغيفا من الخبز وبداخله قطع من البندورة الحمراء حيث لم استطع مقاومة لذته العارمة، كل ذلك لكن ليس من مطاعم تلك الأزقة، وإنما من على قوارب صيد تقف بمقربة من الرصيف البحري وهي تتقاذفهاالأمواج بتموجات مياه البحر يمنى ويسرى حيث يقوم الصيادون بشيّء السمك من على قواربهم عارضين ما يقومون به لمرتادي الرصيف، وأحيانا أقوم بالاستراحة عند جامع كبير ليس ببعيد عن الرصيف البحري حيث يحيط بنا الحمام نحن السياح من كل جانب وينتشر الصبية بكثرة عارضين لنا ما بحوزتهم للبيع كقنينات المياه لمقاومة حرارة الصيف وكذلك قطع من البطيخ اللذيذ، كل ذلك في هذه الساحات الفسيحة عند كل جامع، وإذا ما انتقلت مغادرا المكان، كان ذلك باتجاه مناطق (غلطة) التركية.
ومما شاهدته في رحلتي خرجت بقناعة أنه لا توجد حواجز في هذه البلدان، لكن أقول الحق كنت في (إسطنبول) طليقا حيث صرت أحفظ الأمكنة والأزقه عن ظهر قلب.

خالد بن سعيد العنقودي
[email protected]