(بَيْن) في الاستعمال اللغوي

كلمة (بين) قد تكون اسماً بمعتى الفراق، وقد تكون بمعنى الوصل، فمما جاء بمعنى الوصل قول قيس بن ذَريح:

لَعَمْرُك لولا البَيْنُ لا يُقْطَعُ الهَوى ولولا الهوى ما حَنَّ لِلبَيْنِ آلِفُ
وفي القرآن قرئ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ برفع (بينُكم) على أنه فاعل لتقطَّع، أي: تقطّع وصلكم، وبالنصب على الحذف، أي: تقطّع ما بينكم.
وقد تكون ظرفاً مبهماً لا يظهر معناه إلا بإضافته إلى اثنين فصاعداً، كما في قولك: المال بين محمد وأخيه، أو المال بين الورثة، أو ما يقوم مقام ذلك، كما في قوله تعالى ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾؛ لأن لفظ أحد يفيد استغراق الجنس، وقوله: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ﴾؛ لأن الإشارة مؤدية معنى الفريقين بدليل قوله: ﴿لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ﴾.
وبين، إن أضيفت إلى واحد وجب العطف عليه بالواو؛ لأنها للجمع المطلق، وأجاز بعضهم العطف بالفاء، مستدلاً بقول امرئ القيس:
قِـفَـا نَـبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَـبِـيبٍ ومَنْزِلِ* بِسِـقْطِ اللِّـوَى بَيــْنَ الدَّخُـولِ فَحَـوْمَلِ
وهي تتكرر مع الضمير لزوماً كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾، وقوله: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾.
وينكر كثير من المتأدبين تكرارها مع الظاهر، ومن هؤلاء الأستاذ محمد العدناني في (معجم الأخطاء الشائعة) والدكتور أحمد مختار عمر في (معجم الصواب اللغوي). والحق أنه يجوز أن تتكرر بين مع الاسم الظاهر للتوكيد، وذلك كثير في كلام العرب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة له: "إن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لايدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بقى لايدري ما الله قاض فيه"، وقال علي كرّم الله وجهه في رسالة له: "وهذه أخرى قد فعلتموها، إذ حلتم بين الناس وبين الماء".
وقال ذو الرُّمَّة:
أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْساءِ بَيْنَ جُلاجِلٍ ** وَبَيْنَ النّقا آأَنْتِ أَمْ أمُّ سالمِ
أرى أن تكرير (بين) في كلام العرب إنما يمثل في الحقيقة فرق ما بين النظرية والتطبيق؛ فرق ما بين النظم والأعراف اللغوية وبين استعمال اللغة الحي على ألسنة الناس، إن اللغة في تطور مستمر في مفرداتها وأساليبها، وتكرير (بين) إنما يمثل تطوراً في الاستعمال اللغوي توكيداً أو تقوية لمعنى الوسطية وتحقيقها لها. وإذا كان بعض اللغويين قد أعطى نفسه الحق في مقاضاة العرب وإصدار الأحكام على كلامهم، فإنا نقول لهم لقد نص المحققون على أن "ما ثبت عن العرب لا سبيل إلى رده". وإذ قد ثبت تكرير (بين) فلا مانع من قبول ذلك، لأننا إنما نحاكي العرب في طريقة نطقهم واستعمالاتهم اللغة، والشعر هو سبيل مهم من جملة السبل لتعرف ذلك، والوقوف عليه، فقد اعتاد اللغويون الرجوع إليه حتى لتجلية ما اشتبه عليهم من القرآن الكريم، ففي الأثر عن ابن عباس: "إذا اشتبه عليكم شيء من القرآن فاطلبوه في الشعر". وهذا وإن كان يتعلق بتجلية المعاني، إلا أن الشعر يعتمد عليه أيضاً في الألفاظ والأساليب، فقواعد النحو قد وضعت في أكثرها بناء على لغة الشعر. ولا ينبغي لنا أن نجعل الضرورة الشعرية مشجباً نعلق به كل ما لا يروق لنا من أساليبهم واستعمالاتهم، ولا سيما أن البغدادي صاحب الخزانة قد نص أن العربي لا يمكن أن يغلط لسانه، وإنما الجائز غلطه في المعاني. وما دام الأمر كذلك فلا بد من القبول والتسليم بما جاء عنهم، وأن لا نأخذ في التأويل والتوجيه ما لم تدعنا إلى ذلك ضرورة ملحّة، إذ لا اجتهاد مع وجود النص كما يقال، هذا ونقول أيضاً "وليس اللغة كلها تؤخذ بالقياس".

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]