"الخوصة والزور" تجسيد لمعاناة الأنظمة التي لا ترى الحقيقة كما يجب أن تكون

قد يتساءل المشاهد ما الذي ترسخ في ذهنه بعد مشاهدته لعرض مسرحي معين؟ وما العناصر الأكثر أهمية بالنسبة إليه؟ ...دونما شك أن هناك تفاوتا في قوة وصدق العناصر التي قد تجذب المشاهد لعرض مسرحي ما. وعلى سبيل المثال قد يتصدر عنصر الفرجة البصرية قائمة اهتماماته كما هو الحال في عرض مسرحية (الخوصة والزور) لفرقة مزون المسرحية والذي عرض في مهرجان المسرح العماني الرابع ، وهو من تأليف موسى البلوشي وإخراج يوسف البلوشي.
استهلت لوحة راقصة في بداية العرض، حيث ظهر مجموعة عميان وهم يتمايلون ويتراقصون على الألحان الشعبية، ويقرعون الطبول ويعزفون على العود أعذب الألحان، رغم أنهم (فاقدو البصر) لا يرون نور الشمس ولا يتواصلون مع الآخر خارج العريش أو المنفى بالأحرى. وربما هذا جعل العرض مشوقا وحفز المشاهدين على المتابعة، وخاصة وأنه جسد معاناة الناس في ظل أنظمة قمعية جعلتهم لا يرون الحقيقة كما يجب أن تكون.
ومنذ الوهلة الأولى يتضح جهود المخرج لتعمين عرضه وتأطيره في إطار البيئة المحلية شكلا ومضمونا ، حيث ظهر فيه اشتغال واضح على عناصر البيئة الساحلية العمانية، حيث (الزور والسعف) الذي طوق خشبة المسرح، إضافة إلى القناديل والحبال. ولقد تكاتفت جميع هذه العناصر لصنع بيئة محلية مستوحاة من الواقع العماني بكل تفاصيله؛ حيث يمكننا مشاهدة بعض الأدوات والإكسسوارات من البيئة العمانية مثل إناء فخاري وأوراق شجرة الحناء والحبال او الخيوط التي تتدلى من أعلى المكان التي يتخذها العميان وسيلة للتنقل بين أركان المكان، خوفًا من الضياع الذي يلاحقهم، لأنهم أصبحوا رهينة للعريش والظلام والحزن وكأنهم في سجن حتمي يصعب الفكاك منه. كما استخدم العميان العصي لتكون دليلا لهم لشق طريقهم وسط العتمة التي تحاصرهم، إضافة إلى استخدامها وهم يتراقصون مع الألحان الشعبية. ولقد أضفت الإضاءة جمالية جعلت المشاهد يستمتع بتفاصيل المكان، فيما ساهمت الألحان الشعبية في عزف مقطوعة موسيقية، بدلا من الاعتماد على المؤثرات الموسيقية العامة، كما ساهمت الأزياء المحلية العمانية في رسم تفاصيل البيئة المحلية التي عاش فيها العميان.
بالنسبة للموضوع فهو يتحدث عن ثلاثة عميان أصيبوا بمرض العشى الليلي، وكان هناك اعتقاد بأنه مرض معد لذا تم عزلهم في منطقة محاطة بالسعف أو العرشان لا يتخللها ضوء الشمس. وقد حمل العرض المسرحي نوعًا من الرمزية، حيث إن وجود العميان ضمن منطقة محدودة، جعلهم يشعرون بأنهم منبوذون، ولا يوجد من يأخذ بيدهم، وأن هناك عدوى بدأت في الانتشار بينهم حتى الذي كان بصيرًا عندما اختلط بهم فقد بصره ؟!!
ويمكن القول إن هذا العرض في بعض مواطنه حلق بعيدا عن دائرة موضوعه الاجتماعي، لتحيط به ضبابية الإسقاط السياسي، حيث تجسد منطقة العميان منطقة (الظلم) والتي تغيب عنها شمس الحرية ، وخاصة عندما يعلن أحد العميان عن توليه منصب قيادة المجموعة، ويبدأ بممارسة أفعال ديكتاتورية . وهذا بدوره أدى إلى انتشار الجهل والتحكم بهم، وزرع الخرافة بينهم ، الأمر الذي ساهم في توطيد الاستبداد والخوف بينهم.
بالنسبة للأداء التمثيلي في هذا العرض فقد جاء متفاوتًا واستطاع الممثل الشاب عبدالحكيم الصالحي أن يؤدي دوره بشكل كوميدي رشيق جعل الجمهور يتعاطف ويتفاعل معه، فيما جاء أداء باقي الممثلين متفاوتًا، كما حظي العرض بمشاركة كوكبة من الشباب أمثال الفنان مشعل العويسي، زينب البلوشية، عبدالله البوسعيدي، وحاتم السعدي وغيرهم.
فيما تمكنت الإضاءة من إضفاء لمسات جمالية بصرية تعبيرية ، تسللت إلى ذوات الشخصيات التي ظلت تعاني حتى آخر لحظة من حياة العزلة وفقدان البصر، ويمكن أن نتبين ذلك خاصة عندما حاول الغريب زحزحة فكرة العمى من أذهان العميان، ولكنه لم يفلح في ذلك ، بدلا من ذلك يتسلل العمى إلى عينيه.
ختاما، إن عرض مسرحية (الخوصة والزور) هو استشراف للثورات العربية التي أصبحت تأكل الأخضر واليابس نتيجة الظلم السياسي والاجتماعي وغياب حريات التعبير، فقد غابت شمس الحقيقة عن الأعين المبصرة ، وأصبح العمى مرضا معديًّا، مثلما الجهل والظلم هو الآخر مرض معد. وهكذا توالت حلقات الظلم واستفحلت في حين غابت شمس الحقيقة.
ولقد انتهى هذا العرض بسقوط الأعمى في البئر، كما تسللت شخصيتان ترتديان ثوبًا أسود إلى المسرح ، إشارة إلى قتامة الحدث الذي ارتبط بالموت، مع إصرار المخرج على الاستمرارية في فرض تراجيديا الأحداث المؤلمة، خاصة بعد تنصيب الأعمى ليكون زعيمًا للعميان، وكأنما قدر العميان ألا يحكمهم إلا أعمى مثلهم!

عزة القصابية
كاتبة وناقدة