[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
”.. يؤكد جلالته - رعاه الله - أساس الحكم كما عرفته الديانات السماوية والشرائع الربانية والقوانين الوضعية والبشرية – ونقصد به – العدل كأساس للحكم والمعيار لضمير العمل الوطني وانه حارس الوظيفة من أي خلل او تجاوز او إهمال او تقصير او محسوبية, فقال ((إن العدل أبو الوظيفة وحارسها فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه وإنني ‏لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني)),”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدرك صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - منذ اليوم الأول الذي وضع فيه الخطوط الرئيسية لمسيرة هذا الوطن العزيز، أهمية الثقة السياسية ودورها في توطيد العلاقة بين أبناء هذا الوطن وحكومتهم، وفي أهمية التقارب والتلاحم والتكامل والتعاون والتشارك بين مختلف شرائح وفئات المجتمع وتلك الشخصيات المسئولة التي نالت الثقة السامية لتتحمل مسؤولية السهر على خدمتهم ورعايتهم وتوفير سبل الراحة لهم وتذليل الصعاب ومشقة الحياة عليهم، والتخطيط لمستقبل أفضل لوطنهم ولهم من جهة، وهي أبجديات طبيعية في العلاقة المفترضة أصلا ما بين أي حكومة بمفهومها الشامل والمواطنين على تراب وطنهم، كذلك خطورة افتقاد تلك الركيزة التي لا يمكن بحال من الأحوال ان تتقدم دونها أي امة وطنية من جهة أخرى، بل وفي افتقادها فقدان للمحور الرئيسي الذي تدور حوله جل التطلعات والأهداف والطموحات المأمولة للدولة الجديدة.
وها نحن اليوم وبعد مرور أكثر من أربع عقود على مسيرة النهضة المباركة لهذا الوطن الحبيب "أطال الله عمرها وعمر بانيها"، وفي ظل العديد من الظروف السياسية والاقتصادية العابرة للحدود الوطنية، والتي نستشعر ملامستها للحياة العامة والعلاقة بين منظومة أطراف البناء الوطني، حالنا كحال اغلب دول العالم التي تأثرت بتلك الحالة التاريخية التي عكستها سلبا أوضاع وتحولات تلك المتغيرات الحضارية سالفة الذكر، لذا كان من الضروري إعادة التذكير بتلك التوجيهات والتعاليم التي أراد لها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - ان تبقى الحبل القوي الذي يربط العلاقة بين المواطن والحكومة في هذا البلد العزيز، والتي يقع على رأسها توطيد وترسيخ مفاهيم ومبادئ وقيم الثقة السياسية.
لذا كان خطاب جلالته – حفظه الله - الذي وجهه لكبار رجال الدولة من وزراء ومسئولين في الخامس عشر من شهر مايو من العام 1978م، والذي يعد بحق اقرب إلى مواد دستور سياسي وإداري وطني سبر أغوار النفس البشرية من الناحيتين النفسية والذهنية ليستخرج منها تلك الحلقة الرئيسية أو حلقة الوصل التي يفترض ان تربط استقرار الدول وتوطيد أركان الحكم بها وترسيخ الأمن والأمان بالمواطن نفسه، أي، الثقة السياسية بين أبناء الوطن ومؤسسات دولتهم والقائمين على إدارتها، وهو ما اكده رعاه الله في قوله ((لقد أولانا شعبنا منذ تولينا أموره ثقته الكاملة بنا، ومن خلال ثقته هذه، وثق بمن اخترناه ‏ونختاره لتولي المسؤولية لإدارة مصلحته العامة، ولذا فإن علينا وعليكم المحافظة على هذه الثقة ‏وعدم التفريط بها))، لأن جلالته – رعاه الله - يعلم تمام العلم ان التفريط بها هو انفصال لأهم روابط العلاقة ما بين الحكومة والمواطن في أي نظام سياسي، بل لركن وركيزة لا يمكن أبدا لأي امة وطنية ان تقوم لها قائمة، او ان تتقدم وتنهض دونها.
ويواصل - حفظه الله - خطابه سالف الذكر بقوله: ((لقد جمعناكم اليوم من وزراء ووكلاء ومدراء لنوجه إليكم النصح والإرشاد فيما يجب عليكم القيام ‏به لأداء رسالتكم في خدمة هذا الوطن الغالي، بالطريقة التي ترضى الله ورسوله، وترضينا ‏وترضي المواطنين الذين أولونا ثقتهم .... فالسياسة التي اخترناها وآمنا بها هي دائماً وأبدا التقريب ‏والتفهم بين الحاكم والمحكوم، وبين الرئيس والمرؤوس، وذلك ترسيخا للوحدة الوطنية وإشاعة ‏لروح التعاون بين الجميع، أكان ذلك بين من يشغلون المناصب العالية في الحكومة وبين معاونيهم ‏والعاملين معهم أو مع بقية المواطنين)).
وليقف بعد هذه المسألة – أي – مسألة المحددات والقواعد الوطنية الداخلية لسياسات الدولة المستقبلية ودور الثقة في علاقة الحكومات القائمة والقادمة بمواطنيهم وارتباط ذلك بمسالة الاستقرار والأمن الوطني، على تأكيد معيار تلك العلاقة سالفة الذكر وأهميتها الوطنية، وتوجيه له ما بعده من مرئيات راسخة وثابتة لا يجب التهاون أو التفريط بها من قبل أي من مسئولين هذا الوطن العزيز، ويجب ان توضع نصب أعينهم، وفوق رُؤوسِهِم وعلى طاولات مكاتبهم بشكل دائم، تلك القضية هي طبيعة العلاقة بين مسئولين الدولة بمختلف قطاعاتها وأبناء هذا الوطن الذي وجدوا أصلا لخدمتهم ورعاية مصالحهم، سواء في توجهاتهم وقراراتهم وفي هذا السياق يقول صاحب الجلالة حفظه الله : ((وهناك أمر مهم يجب على جميع المسئولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنهم ‏جميعاً خدم لشعب هذا الوطن العزيز )).
ويواصل ـ حفظه الله ـ تأكيد ذلك من خلال معايير إثبات تلك الثقة السامية الوطنية بهم، والتي حددها بالإخلاص والتجرد من الأنانيات وتقديم المصلحة الوطنية او مصلحة الأمة العمانية على المصالح الشخصية والفئوية والقبلية او غير ذلك من المصالح الفردية , و- بمعنى آخر – ان الوطن والمواطن هم رأس المال وهم الفائدة الوطنية والغاية القصوى لمختلف سياسات الدولة الحالية والمستقبلية كما أرادها جلالته، فقال : ((وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجردوا ‏من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية))، ثم يؤكد على ان التهاون أو التفريط في تنفيذ تلك الأهداف والغايات الوطنية والسياسات العليا التي أرادها وعمل على ترسيخها – أي – خدمة الوطن وأبنائه من قبل من وثق بهم جلالة السلطان وأولاهم ثقته الوطنية السامية غير مقبول أبدا , ولا يمكن التهاون به، وانه سيترتب عليه الجزاء والمحاسبة، فقال : ((إذ إننا لن نقبل العذر من ‏يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه، بل سينال جزاء تهاونه ‏بالطريقة التي نراها مناسبة ))
ثم يواصل ـ حفظه الله ـ توجيهاته السامية للوزراء والوكلاء والمدراء بضرورة الاطلاع ودراسة القوانين والمراسيم المشرعة والمحددة لطبيعة تلك العلاقة والمحافظة عليها بينهم ومؤسسات الدولة التي يديرونها ومساعديهم من جهة والمواطنين من جهة أخرى، وهو في وقتها لا يتكلم عن لحظات آنية او لحظية بقدر ما هي توصيات وتوجيهات كريمة دائمة ومستمرة منذ الحكومة القائمة في وقتها وحتى القادمة منها بقوله: ((لقد وضعت قوانين لهذه الدولة بموجب مراسيم سلطانية صدرت ‏بشأنها وتصدر من حين لآخر، وذلك للمحافظة على مصالح هذا الشعب، فعليكم أن تدرسوا هذه ‏القوانين كل في مجال اختصاصه دراسة وافية وأن لا تتجاوزوا في المعاملات أي نص لتلك ‏القوانين، بل يجب التقيد بها واتباع ما جاء في نصوصها)).
ثم يتطرق للمفهوم والمعنى الذي أراده وقصده من الوظيفة العامة التي أوكلها لمن اختارهم لإدارة شؤون الوطن بوجه عام ومصالح أبنائه على وجه الخصوص، فأكد ـ حفظه الله ورعاه ـ ان الوظيفة العامة أو الحكومية هي تكليف ومسؤولية وليست صكا أو ملكية نفوذ أو سلطة سلمت لمن نالتهم الثقة السامية الكريمة، وانه يجب عليهم ان يكونوا قدوة لإخوانهم من المواطنين في الشرف والأمانة والإخلاص والعطاء والوطنية واحترام العمل والقيادة، فبدون القدوة الحسنة منهم، سواء في تصرفاتهم الوظيفة، أو حتى الشخصية منها، سينظر إليهم أبناء بلدهم نظرة شك وريبة وسخط وامتعاض، وسيفقدون مع الوقت احترام الناس لهم، وبالتالي فقدانهم لإيمان وثقة أبناء وطنهم الذين وجدوا لخدمتهم ورعايتهم، وهو ما سينعكس سلبا على كل تصرفاتهم ومخرجات مؤسساتهم، من قرارات وتوجهات وسياسات، وان تلك الثقة محل مراقبة وتقييم منه شخصيا فقال : (( إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن ‏تكون نفوذاً وسلطة، عليكم جميعاً أن تكونوا قدوة ومثلاً يقتدى به، سواء في الولاء لوطنه أو ‏المواظبة على عمله واحترام مواعيده أو في سلوكه الوظيفي داخل مكان العمل أو خارجه، وفي ‏حسن الأداء وكفايته )).
ثم يؤكد جلالته - رعاه الله - أساس الحكم كما عرفته الديانات السماوية والشرائع الربانية والقوانين الوضعية والبشرية – ونقصد به – العدل كأساس للحكم والمعيار لضمير العمل الوطني وانه حارس الوظيفة من أي خلل او تجاوز او إهمال او تقصير او محسوبية، فقال ((إن العدل أبو الوظيفة وحارسها فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه وإنني ‏لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني))، فبدون العدل ينتشر الظلم والفساد، وتحل الفوضى والخوف والخراب، وانه ما من شك أبدا، بان الثقة السياسية امتداد للعدل وتحقيق الاستقرار والأمن الوطني، وفقدانها كما سبق واشرنا عاملا من عوامل الظلم وخراب الدول ودمارها، واتجاهها للفوضى وعدم الاستقرار .
وحديثنا عن الثقة السياسية وأهميتها ودورها وخطورة افتقادها او تراجع منسوبها في الحياة العامة الوطنية مهم للغاية كما سبق واشرنا، وينبع من حرص وتوجيهات المقام السامي لقائد نهضة هذا الوطن العزيز عليها منذ قيام النهضة المباركة "أطال الله عمرها وعمر بانيها"، خصوصا ان ما يحيط بهذا الوطن من تحولات عابرة للحدود الوطنية، ومتغيرات دولية وإقليمية تؤثر بلا شك فيه كوطن ونظام سياسي وحكومة وسكان، حالها كحال كل دول العالم على كل مسامة وقيمة من قيمنا الوطنية واستقرار وامن وطننا العزيز، يضاف إلى ذلك إدراكه التام ونظرته الحكيمة - حفظه الله- لأهمية الترابط والتجانس بين المجتمع ومؤسسات الدولة، فمما لا شك فيه (أن هناك علاقة وطيدة بين حضارة المجتمع والمؤسسات السياسية، وان الوظيفة الأساسية للسلطات العامة هي تعزيز الثقة المتبادلة السائدة في قلب الوحدة الاجتماعية، وإن فقدان تلك الثقة في حضارة المجتمع يوجد عقبات مهمة أمام إقامة مؤسسات عامة)
لذا كان من الضروري مواصلة التنبيه ودق أجراس الخطر دائما للتحذير والتوعية بأهميتها الوطنية، وخطورة تأثرها او تراجع منسوبها بأي عامل من عوامل الإحباط والسخط والامتعاض الشعبي، سواء كان ذلك من خلال القرارات او التصرفات او التوجهات الرسمية القائمة والقادمة، وضرورة اخذ الحيطة والحذر من الدخول إلى دائرة الشك والخوف والريبة التي يمكن ان تنبع عن أي توجه رسمي او سياسات احتواء او إصلاح او تحديث حكومية في ظل الأزمات الاقتصادية خصوصا، وغيرها من الأزمات العابرة للحدود الوطنية كما سبق واشرنا، لا تأخذ في الاعتبار مسألة تأثر ثقة المواطنين وأهميتها في العلاقة بين الحكومة وأبناء هذا الوطن الكريم، وخطورة افتقادها او تراجع منسوبها بينهم، او الاعتماد على مرئيات فردية لا مؤسسية لتحفيزها وتقويتها وبنائها.
كما يجب عدم الاستهانة أو المكابرة في هذه القضية الحيوية أبدا خصوصا في ظل اختلاف وتقادم الوعي المجتمعي، وتحديدا بين فئة الشباب من أبناء الوطن، فتطور وعي الجماهير وثقافتهم ونظرتهم الى المحيط الخارجي الجديد، وارتفاع نسبة المتعلمين بينهم وتوسع ثقافتهم الالكترونية واطلاعهم على ما يحدث خارج بيئتهم ومحيطهم الداخلي، وقدرتهم على المشاركة والتأثير على تلك الأحداث، وتأثرهم بها كذلك سلبا او إيجابا، يفرض بالضرورة الحتمية والإلزامية تطور وعي القيادات ومؤسسات الدولة، وإلا تفاقمت الخلافات السياسية والمشاققات الثقافية واتسعت هوة التجاذبات وسوء الفهم وفقدان الثقة وارتفاع نسبة الحنق والامتعاض بين الطرفين، فلا يمكن بحال من الأحوال ان تبقى نماذج وعي وتفكير وثقافة القيادات والمسئولين في أي دولة في القرن الحادي والعشرين على ما هي عليه بوعي وثقافة وفكر الستينيات والسبعينيات أو حتى القرن العشرين بأكمله.