(4)
أشرت فيما مضى إلى كتاب (ومضات من دروب الأيام) للأستاذ ذياب بن صخر العامري، وأود هنا أن أتحدث قليلاً عن هذا الكتاب:
أصدر الأستاذ ذياب هذا الكتاب في عام 1997م، أي في نفس العام الذي زرت فيه عمان للمرة الأولى. وكان الأخ ذياب، في رسائله التي يبعثها لي من هولندا، يحدثني عن هذا الكتاب الذي ينوي نشره قريباً، بل إنه أطلعني مسبقاً على بعض فصوله، وقد قمت بنشر أحدها في العدد الرابع من مجلة الفكر، التابعة لجمعية المؤرخ سعيد عوض باوزير، التي كنا نسميها نشرة، وهو الفصل الذي يحمل عنوان (الحاج سالم..اعتراف عفوي بإبداع الخيال وسمو العاطفة). ويبدو لي أن فصل (ذكريات حضرمية) كان آخر الفصول التي كتبها المؤلف؛ لأن زيارته لحضرموت كانت في عام1996م، أي في العام السابق على عام الصدور. ويمكن تصنيف هذا الكتاب في خانة السيرة الذاتية، كما إن العنوان نفسه يوحي بذلك. لكن الكتاب ليس سيرة ذاتية بالمعنى المألوف، الذي تطّرد فيه الأحداث متسلسلة، بل هو وقفات عند مراحل حياتية عاشها الكاتب أو مواقف وصور مجتمعية معينة عاصرها وكان شاهداً عليها. وتدخل ضمن هذا الإطار الفصول الثمانية الأولى من الكتاب، بما في ذلك الفصل الرابع الذي هو عبارة عن قصة قصيرة تحمل عنوان (غجرية الوادي)، ويذكر فيها المؤلف بلدته العمانية (حيل العوامر)، ويستعيد بعض الذكريات من خلال صياغة فنية تمتلك كل مقومات القصة القصيرة الناجحة. وأتذكر أن هذه القصة نشرت في مجلة (العربي) الكويتية. وكنت أفضّل لو أن المؤلف ضم فصل (ذكريات حضرمية) إلى هذه الفصول الثمانية وأخّر فصل (ومضات من كتاب العمدة) الذي يكاد يكون، مع الفصل الأخير (شارلوت برونتي وبعض شعراء اليوم)، هما الفصلان الوحيدان اللذان لا يمتّان بصلة إلى السيرة الذاتية للمؤلف. أما الفصول الثلاثة التي تقع بعد الذكريات الحضرمية وقبل الفصل الأخير، فالفصل الأول منها يتضمن حواراً طويلاً أجراه المؤلف مع المستكشف البريطاني (ويلفريد ثيسيجر) بالإضافة إلى مقدمة للحوار يتحدث فيها عن بعض الذكريات الشخصية المرتبطة بثيسيجر وكتابه الشهير (الرمال العربية)، وكنا قد نشرنا هذه المقدمة أيضاً في عدد مبكر من نشرة الفكر.أما الفصلان الآخران فهما يستندان إلى المرحلة الإعلامية من حياة المؤلف، إذ جعل هذه المرحلة المهمة أشبه بخلفية فقط لبعض المواقف الطريفة والاستطرادات الأدبية والفنية. أما تفاصيل انخراطه في العمل الإعلامي وإنجازاته الكبيرة فيه فقد علمت من الأخ ذياب أنه سيخصص لها فصلاً مطولاً وأساسياً، بعنوان (سنواتي الإذاعية)، من الجزء الثاني من كتاب (ومضات من دروب الأيام)، يتطرق فيه إلى المقابلات واللقاءات التي أجراها مع العديد من الشخصيات مثل: جلالة السلطان قابوس، والملك حسين، وحسني مبارك، وإبراهيم الحمدي، وياسر عرفات، وصدام حسين، ومارجريت تاتشر، وأنديرا غاندي، ورؤساء حكومات البرتغال وإسبانيا، ووزراء وشخصيات بارزة أخرى عربية وأجنبية، كما يتطرق إلى تغطياته لمؤتمرات القمم الإسلامية والعربية وعدم الانحياز ومجلس التعاون الخليجي. فنتمنى أن يظهر قريباً هذا الجزء المهم من سيرة الأستاذ ذياب الذاتية الذي طال ترقب القراء، ونحن منهم، له.
وتتصدر كتاب (ومضات من دروب الأيام) مقدمة رائعة كتبتها الدكتورة صدى خلوصي، الأديبة والشاعرة العراقية، المتخصصة في مجال الأدب المقارن العربي والإنجليزي واللسانيات التطبيقية والترجمة. وهذه الأديبة والأكاديمية هي ابنة الدكتور صفاء خلوصي، الذي أتذكر أنه كان يقدم أحاديث أدبية من إذاعة لندن، وهو أيضاً صاحب كتاب مهم في علم العروض عنوانه (فن التقطيع الشعري والقافية) كنت قد اقتنيته من البصرة قبل أربعين عاماً من اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، أي في عام 1973م. وقد أهدى الدكتور صفاء الكتاب إلى ابنته صدى وولده صميم بهذه الأبيات:
لكما أهديت هذا السفر
من فكري وجهدي
مشعلاً يسطع نوراً
يلهم الذهن بوقدِ
قد حفظت العهد براً
فاحفظا عهداً بعهدِ
والبسا الغار وكونا
قدوة الجيل المجدِّ

(5)
من أجلّ النعم التي يمكن أن يهبها الله سبحانه وتعالى للعبد نعمة تذوق الجمال، ومن أسمى أنواع الجمال جمال الكلمة والتعبير. وقد ذكر الله جل وعلا هذه النعمة في بداية سورة الرحمن التي تتكرر فيها آية (فبأي آلاء ربكما تكذبان؟)، حيث قال، جلّ من قائل: "الرحمن، علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان". وسمى ربنا سبحانه الكلمة الطيبة حُسناً، أي جمالاً، في الآية الكريمة"... وقولوا للناس حُسنا". ومن هنا كانت الكلمة سبيلاً ووسيلة من وسائل التحابّ بين الناس والتقارب بينهم، الناس على وجه الإطلاق كما قال ربنا، دون اعتبار لأي شيء آخر سوى الأخوة الإنسانية.
وقد تأملت طويلاً في الإهداء الذي أهدى به الأستاذ ذياب بن صخر العامري ديوانه (مرفأ الحب) إلى صديقه الراحل، السيد سامي بن حمد، عندما وصفه بأنه: "كان محباً للناس ومتذوقاً للكلمة"، وشدني وأثار إعجابي هذا الربط بين حب الناس وتذوق الكلمة. والأستاذ ذياب نفسه من عشاق ومتذوقي الجمال في الكلمة، وهو أيضاً من الذين يَألفون ويُؤلَفون. وقد وصفته ذات مرة، في أبيات مرحة الطابع، بأنه: "وفيٌّ لكل الأصدقاء يحبهم"، وقد جاء هذا الوصف في قصيدة من خمسين بيتاً كتبتها أصف زيارتي الثانية لهولندا الجميلة،كما يحلو لي أن أسميها، التي:

حللتُ بها ضيفاً على خير صاحب
كريم إذا الأصحاب غابت وقلّتِ
سليلِ كرام من بني العرب قد سرت
بذكرهم الركبان في كل بقعةِ
ذياب الأديب العامري الذي به
تعيد عهود الشعر أرض الجزيرة
إلى حضرموت جاء في ميعة الصبا
وما زال تحدوه لها كل فكرةِ
وفيٌّ لكل الأصدقاء يحبهم
ويجمع فيما بينهم كلَّ مرةِ

والذي يتأمل كتابه النثري (ومضات من دروب الأيام)، الذي يحرص فيه الأخ ذياب على اختيار العبارات والألفاظ ذات الإيقاع الذي يطرب السمع، يجده، بالإضافة إلى ذلك، يرصعه هنا وهناك بأبيات شعرية يستشهد بها أو يستذكرها أو يعضد بها الفكرة، حتى إنه ختم قصة (غجرية الوادي) ببيتي شعر للمتنبي يقول فيهما:
زودينا من حسن وجهك مادام فحسن الوجوه حال تَحولُ
وصلينا نصلْكِ في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليلُ

وهناك أكثر من فصل في هذا الكتاب هي في حقيقة الأمر، مرافعات في حب الشعر والدفاع عنه والذود عن حياضه. وقد خصص المؤلف أحد هذه الفصول لتوضيح المؤثرات المختلفة التي عملت على توجيهه نحو تذوق الشعر ونظمه، وهو الفصل الذي يحمل عنوان (السفر إلى كوكب الشعر). ولقد أتيت في بداية هذه الخواطر على ذكر بعض الأشعار التي كنا، الأخ ذياب وأنا، نتذاكرها في لقاءاتنا. وقد كانت مراسلاتنا أيضاً لا تخلو في الغالب من تبادل القصائد الشعرية، أو للإنصاف كان هو الأكثر مبادرة وإتحافاً لي بكثير من النماذج الشعرية الجميلة. ولعله يكون مسك الختام لهذه الخواطر التي أكتبها عن علاقتي بالصديق العزيز ذياب بن صخر العامري أن أنهيها بشيء من المختارات الشعرية التي كثيراً ما استمتعنا بها معاً:
ـ من قصيدة بعنوان (همسات الوداع) للشاعر العماني الكبير الشيخ عبدالله بن على الخليلي:
همسات الوداع عند الغروب
أخذتني في غُدوتي وغروبي
أخذتني عني وما كنت أدري
وأنا بين سالبٍ مسلوب
أخذتني عني كما أخذ
الجالب قسراً بربقة المجلوب
أخذتني قلباً ولو أخذتني
قالباً لاغتنيت بالمرغوب
وحبيب كأنه نضرة النعماء
في نفحة النسيم الرطيب
عشت عمري بقربه أجتلي
النعمة والعيش في الرداء القشيب
وتمليته جلالاً وحسناً
وجمالاً ونفحة من طيب
وتمتعت بالحياة به خضراء
أحلى من رقة الأسلوب
ولمست النعيم برداً لديه
بين أزرار أنسه والجيوب
غاب عني حيناً فلم يحلُ عيشي
ما أمرّ الدنيا بغير حبيب

ـ من قصيدة بعنوان (في الطائرة) للشاعر البحراني الشيخ أحمد بن محمد الخليفة:
رنت لي باللحاظ على السحاب
فغبت من الجمال عن الصواب
إذا قالوا السماءُ تجول فيها
ملائكة منوّرة الإهاب
لقد صدقوا فهذا الحسن ليست
عناصره تكون من التراب
على طيارة في الريح تجري
وتمرق في الأعالي كالشهاب
حمدت بها الضجيج فكل همس
يضيع مع الصدى في الإصطحاب
وقد جلست بمقعدها حيالي
تطالعني وتقرأ في كتابي
وقد لمحت فتوني حيث باحت
عيوني للفتاة بكل ما بي
وران الصمت لما ساءلتني
وبان الشوق في رد الجواب
فقلت أنا من البحرين جاءت
بي الأقدار من غير احتساب
أنا كالسندباد أطوف براً
وبحراً لا أهاب من الصعاب
فقالت إن في عينيك سراً
بعيدَ الغَور مجهول الطلاب
أنا عرّافة يا ابن القوافي
عرفت السر في كشف الحجاب
فقلت لها اقرئي حظي لعلّي
أرى الأفراح بعد الاكتئاب
فقالت أنت في الدنيا تغني
مع الأوهام في القفر اليباب
يضيع الصوت منك بكل واد
ولا تلقى نصيراً في الصحاب
ترى الغدران طافحة فتنأى
وتُروَى في الهجير من السراب
وإنك بالحسان لمستهام
فقلت قفي وكُفّي عن عتابي

ـ وكان من السنن المحمودة لإذاعة لندن في غابر عهدها أن تنظم مسابقات شعرية يشارك فيها الشعراء العرب أو الذين يكتبون باللغة العربية من كل مكان. وقد أرسل لي الأخ ذياب ذات مرة مجموعة من المواضيع المختارة قام بتصويرها من مجلة (المستمع العربي) التي كانت تصدرها الإذاعة، والتي أصبح اسمها فيما بعد (هنا لندن) ثم أخيراً (المشاهد السياسي) بعد دخول عصر الفضائيات وطغيان الإعلام المرئي على الإعلام المسموع.
وكان من بين هذه المواضيع المختارة، الذي يعود تاريخ نشره إلى عام 1945م، إحدى القصائد الفائزة في المسابقة الشعرية الخامسة. وقد صُدّرت القصيدة بهذه المقدمة التي أنقلها حرفياً: "الأديب سيد محمد عبده غانم، الفائز بالجائزة الأولى في مسابقتنا الشعرية بعدن والجائزة الثانية من لندن. والأستاذ سيد محمد هو من أدباء عدن المعروفين في الأوساط العلمية والأدبية هناك. وهو فوق اهتمامه بالأدب والشعر، يشغل منصب مساعد مدير دائرة المعارف." وهذا الأديب الفائز هو، دون شك، الذي أصبحنا نعرفه بأنه التربوي والشاعر الكبير الدكتور محمد عبده غانم. والقصيدة جميلة وفيها ذلك النفَس الإبداعي الذي يميز الدكتور غانم، حتى وإن كانت تعد من شعره المبكر، ناهيك عن اختيار الشاعر لبحر مناسب هو الرمَل وقافية من القوافي التي تروق لي كثيراً هي قافية الهمزة الساكنة بعد ألف المد. أما موضوع القصيدة فهو (رهين المحبسين) أبو العلاء المعري، وهذا هو مقطعها الأول:
شاعرَ الحكمة بين الشعراء
وحكيمَ الشعر بين الحكماء
ألف عام بيننا مرت كما
تنقضي في الفجر أحلام المساء
جُزتَها في وثبة جبارة
كانطلاق السهم في رحب الفضاء
أو شهاب ثاقب زجّت به
بين أمواج الدجى كف القضاء
ما تراه العين إلا شخصت
تقرأ الإعجاز في سفر السماء
هكذا المجد لمن يطلبه
كل مجد غيره رهن انقضاء
دمتَ للأجيال وحياً خالداً
عبقريّ اللحن قدسيّ الرواء
يستمد الفكر منه نورَه
ويناجيه خيالُ الشعراء
وإذا الشعر سمت أغراضه
كان فيضاً من شعاع الأنبياء

ـ ومن بين الأرشيف الغني والمتنوع الذي يحتفظ به الأخ ذياب، كنت قد حصلت على نسخة من تسجيل على شريط كاسيت يحتوي على القصائد الفائزة بالجوائز الثلاث الأولى في المسابقة التي نظمتها إذاعة لندن بمناسبة إطلالة القرن الخامس عشر الهجري، وفي هذا التسجيل يلقي القصائد بصوته الرصين المذيع محمد سليمان حسن. وقد فاز بالجائزة الأولى شاعر من السنغال اسمه عبدالله باء؛ وقد أخبرني الأستاذ ذياب أنه عندما ذهب إلى السنغال، موفداً من الإذاعة والتلفزيون العمانيين لتغطية القمة الإسلامية السادسة المنعقدة في عام 1991م، سأل عن الشاعر عبدالله باء فقيل له إنه كان للتو في بهو الفندق فبحث عنه ولكنه لم يجده. ولأن الدنيا صغيرة، كما يقال، فقد عثر الأخ ذياب على قريب للشاعر، اسمه يوسف سماسا، يعمل في أحد فنادق ضاحية باد جودزبيرج التابعة لمدينة بون التي كانت عاصمة لجمهورية ألمانيا الاتحادية قبل توحيد الألمانيتين ونقل العاصمة إلى برلين. وقد حرص الأخ ذياب على تعريفي بهذا الشخص عندما نزلنا معاً في ذلك الفندق في عام 2001م. وقد اخترت من قصيدة الشاعر عبدالله باء هذه الأبيات:
هجرتَ بطاح مكة والشعابا
وودعتَ المنازل والرحابا
تخذتَ من الدجى يا بدر ستراً
ومن رهبوب حلكته ثيابا
فكيف تركت خلفك كل شأن
وخليت القرابة والصحابا؟
صبرت وكل داعية يلاقي
من الأهوال ما يوهي الصلابا
تزيدك كل حادثة ثباتاً
وصبراً في المواقف وانكبابا
أتعرف دعوة لله قامت
وكان قوامها شهداً مذابا؟
نَبتْ بك أرض مكة وهي أوفي
وأرحب في سبيل الشرك بابا
لقد وسعتْ من الأديان بُطلاً
ولم تسع الحنيفة والصوابا
ومن عجب تسيء إليك أرض
شببت فما أسأت بها شبابا
منازل كنت تنزلها طهوراً
وتلقى الوحي فيها والكتابا
تزلزل بالدعاء ذرى حراء
فلولا الله يمسكه لذابا
أمينَ الله أهلك قد أساءوا
ولج لسانهم إثماً وعابا
وقالوا الساحر الكذاب حاشا
لربك لم تقل يوماً كذابا
وكانوا من صفائك في يقين
فكيف يرون دعوتك ارتيابا؟
ولكن دولة الأغراض تعمي
وتلقي فوق أعينها حجابا
ومن تكن المآرب ضللته
يجد في الحق زيغاً واضطرابا
صلى الله وسلم على النبي الهادي، سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

نجيب سعيد باوزير
كاتب ومترجم من اليمن
[email protected]