على الرغم من مرور عقود عديدة على انتهاء الحرب الأهلية الاميركية والبدء بترسيخ وانتشار المساواة بين البيض والسود في اميركا ، وانتخاب رئيس اميركي اسود لفترتين متتاليتين ، الا ان بعض الاميركيين مازالوا يتعاملون مع السود باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية ولا يستحقون جميع الامتيازات التى تعطى لهم ، وفي الاغلب فان تلك الوقائع تحدث على نطاق ضيق ولا يشعر بها احد ، ولكن قد استطاع مخرجنا اليوم الشعور بها عندما صرح قائلا بأن جميع الاستوديوهات بعاصمة السينما في العالم (هوليوود) لا تحفز بانتاج موضوعات سيرة ذاتية او تناول فترة تاريخية بها اضطرابات بين البيض والسود واذ امكن انتاج تلك النوعية من الافلام ولكن ببضعة دولارات فقط ، وهذا بالضبط ما تشعر به تجاه الاميركيين من السود وما يستحقونه من حفنة الدولارات ، وهذا هو ماجعل ( لي دانيالز) الموافقة على صناعة (The Butler) بعد ان لجأت له (لورا زيسكين) منتجة الافلام عندما يئست من الرفض المتواصل بعد طلبها الحصول على تمويل للفيلم من تلك الاستديوهات الكبيرة ، وذلك لقدرته على صناعة الافلام المستقلة والمنخفضة التكلفة .

كبير الخدم (Lee Daniels' The Butler) : فيلم دراما تاريخي اميركي يروي السيرة الذاتية لكبير خدم البيت الابيض (يوجين الين) لثلاثة عقود ، وهي قصة مستوحاة من مقال للكاتب (ويل هايجود) نشر في صحيفة واشنطن بوست ، من تأليف (داني سترونج) وطاقم مؤلفين مساعد ، ومن اخراج (لي دانيالز) المخرج المبدع صاحب البشرة السوداء وصاحب فيلم (Precious) الذي تناول قصة فتاة مراهقة سوداء شديدة البدانة تتعرض للاغتصاب على يد والدها ولديها طفلان احدهما مصاب بمتلازمة داون ، وقد اثار العديد من الجدل منذ بداية عرضه.
نجح دانيالز بفيلم ذي باتلر في اثارة مشاعر الجماهير من خلال شخصية البطل الذي تضطره المعاناة لتقديم الكثير من التضحيات والتنازلات ، حيث تمكن من الغوص في اعماق الشخصية من مختلف جوانبها ورصد تحولاتها التى لا تنتهي على مدار معايشة (جاينز) لثمانية رؤساء شغلوا المكتب البيضاوي خلال 34 عاما وهي مدة خدمته داخل البيت الابيض ليحقق ذاته وينال اقصى شرف يمكن ان يحققه انسان في مجاله .
الفيلم من بطولة الاسطورة السمراء حامل الاوسكار الفنان (فورست ويتكر) والذي حظى عليه عن تجسيده شخصية الديكتاتور الافريقي عيدي امين في فيلم اخرملوك اسكتلندا (The Last King of Scotland) .
ويتكر الذي اعتاد على اداء ادوار معقدة وشديدة العمق ، حيث اشاد له النقاد بأدائه لدور رئيس الخدم (سيسل جاينز) وكيفية تحكمه بتلك الشخصية المركبة العميقة وانه يعد نوعا من الشرف الاضافي لمسيرته الفنية الحافلة وتأكيدا لموهبته الاصلية التى اصقلها بالعمل في مسارح نيويورك .
تشاركه البطولة الاعلامية المتألقة السمراء (اوبرا وينفري) والتى تعد واحدة من اشهر واغنى سيدات المجتمع في وسائل الاعلام الاميركية ، وتعد ايضا من ابرز الناشطات المدافعات عن الحقوق المدنية للسود ، وبالرغم من عدم مشاركتها في اي عمل سينمائي منذ فيلم منذ فيلم (Beloved) 1998 مع الفنان داني جلوفر ، الا انها قد برعت كثيرا في اداء دور (جلوريا) زوجة كبير الخدم في الفيلم ، وهي شخصية مركبة ايضا عانت من الضغوط النفسية حولها والصراع بين ادمان الخمور وبين الابن الذي انخرط في العمل السياسي من خلال الجماعات المتمردة التي ظهرت بالسيتينيات واعلنت رفضها لسياسات اميركا .
يشاركهم البطولة بالفيلم ايضا عدد كبير من اهم نجوم هوليوود قد حصل معظمهم على جوائز الاوسكار ومنهم الممثل (جون كوزاك) في دور الرئيس الاميركي نيكسون ، الفنان القدير (روبين ويليامز) في دور الرئيس ايزنهاور ، الممثل (جيمس مارسدين) يقوم بدور جون كينيدي و (آلان ريكمان) في دور ريجان ، الاسمر (نيلسون اليس) بدور مارتن لوثر كينج ، الفنانة (مينيكا كيلي) وتقوم بدور جاكلين كيندي زوجة الرئيس جون كينيدي ، واخيرا وليس اخرا وبعد غياب دام نحو 20 عاما عن شاشة السينما الفنانة الكبيرة (جين فوندا) وتقوم بدور نانسي ريجان زوجة الرئيس رونالد ريجان ، بجانب عدد اخر من الممثلين الذين ابدعوا في اداء ادوارهم بالفيلم ك (فانيسا ريدجريف) و(ماريا كاري) و (اورلاندو ايريك ستريت ) والذي يجسد دور الرئيس الاميركي الحالي باراك اوباما الذي صرح في مقابلة اذاعية له ان الفيلم ذكره بآثار التمييز العنصري التى عانى منها جيل كامل ابدى مثابرته وتمسكه بالحفاظ على كرامته وتحمل ابناؤه الكثير املا في تحقيق شئ افضل لأولادهم ، وانه لم تذرف عيناه بالدمع لمجرد التفكير في كبار الخدم الذين عملوا هنا في البيت الابيض فحسب ، بل في جيل بأكمله من الموهوبين والمهرة الذين لم يتمكنوا من تحقيق الكثير بسبب التميز وقوانين الفصل العنصري .
تمكن فيلم (كبير الخدم ) من جمع ما يقارب نحو 91.9 مليون دولار اميركي في الاسبوع الثالث بشباك التذاكر الاميركي .
قصة الفيلم
يحكي الفيلم قصة حياة الخادم سيسيل جاينز ، والذي يقوم بخدمة ثمانية رؤساء اميركين خلال فترة توليه منصب كبير الخدم في البيت الابيض ، ومعاصرته للكثير من الاحداث التى تحدث خلال حياته من حركة حقوق مدنية مما يؤثر على حياته وأسرته والمجتمع الأميركي .
أحداث
مقاطعة ماكون (جورجيا) الولايات المتحدة الاميركية عام 1926 ، حيث يروي لنا سيسيل جاينز كيف بدأ حياته وحيدا بدون عائلة ، بعد ان تعرض والده الى القتل على يد رجل ابيض متعصب من عائلة ( آنابيث) التى تمتلك مزرعة قطن يعمل بها عائلتة سيسل, بعد ان يغضب والده ويعترض على جريمة اغتصاب الرجل لزوجته ووالدة سيسل, حيث تفقد والدته عقلها بعد تلك الحادثة وتفضل السكون وعدم الحديث مع اي شخص .
يضطر سيسيل للهروب من المنزل بعد ان يكبر ويتمكن من الاعتناء بنفسه وخوفا ايضا من ان يقتل مثلما حدث مع والده ، وذلك بعد ان ينشأ كزنجي وخادم للبيوت وذلك عندما تأخذه العجوز آنابيث وتعلمه العمل بداخل المنازل ، ويقوم بالتنقل من مدينة الى اخرى باحثا عن العمل وعن المأوى و الطعام .
يقتحم سيسل احد الفنادق ليلا ويتسلل داخلها بحثا عن الطعام فيتمكن (ماينرد) الخادم الاسود والذي يعمل بالفندق من القبض عليه ويحكي له سيسل قصته فيشفق عليه ماينرد ويجلب له وظيفة بالفندق .
يتبنى ماينرد سيسيل ويعلمه كيفية العمل بالفنادق كـ(نادل) و كيفية العمل مع الجنس الابيض والتحكم بأعصابه تجاههم وذلك لانه سوف يتعرض للكثير من المواقف المهينة والجارحة في عمله .
البيت الأبيض (1957)
يواصل جاينز الحديث عن كيفية زواجه بـ(غلوريا) وانجابه طفلين منها وكيفية حرصه على ان يتعلما جيدا لكي ينشئهما نشأة غير تلك التى نشأ عليها ، بعيدا عن جمع محصول القطن والخدمة بمنازل البيض ، وذلك بعد حصوله على وظيفة بأحد الفنادق الكبيرة الفخمة بواشنطن ، وهي الخطوة التى سبقت قدومه الى البيت الابيض ، وذلك بسبب سجله النظيف والمعني بـ (ابتعاده عن الحديث في السياسة) بالاضافة الى اشادة اصحاب الفندق بخدمته الممتازة .
يصل جاينز الى البيت الابيض ويؤخذ باصطحاب كبير الخدم الاول في جولة بأرجاء اروقته وغرفه ، ويتمكن من الدخول لأول مرة الى مكتب رئيس الولايات المتحدة انذاك (دوايت أيزنهاور) الذي احبه جاينز كثيرا لرغبته في مساعدة الملونين وتحقيق رغباتهم وسياسته المؤيدة لمنع التمييز العنصري في مدارس الولايات الاميركية الجنوبية .
يسافر جاينز الى ابنه الاكبر لويس في ولاية تينيسي بجنوب اميركا ، عندما يعلم بالقبض عليه بعد انضمامه كناشط الى حركة الحقوق المدنية والتى تسعى للتغير والاعتراف بالجنس الاسود ، وفيما بعد يحكم عليهم القاضي بالسجن 30 يوما لاختراقهم القانون . فينشأ خلاف حاد بين سيسل وابنه .
جون كينيدي (1961)
يترك ايزنهاور الرئاسة ويرحل عن البيت الابيض ، مخلفا وراءه جون كينيدي الذي يلتقي بكبيري الخدم داخل البيت ومنهم جاينز ، الذي يتعرض لضغوط كبيرة من عائلته وتوترات بعلاقته مع زوجته غلوريا التي تتحول الى مدمنة كحول حيث تتهمه بعدم الاهتمام بهم منذ ان عمل بالبيت الابيض وخاصة هي وابنها الاكبر لويس التي تتعاطف معه ومع نشاطه ، وتزداد الامور تعقيدا عندما يتعرض لويس ومجموعة النشطاء معه لاعتداء من قبل متعصبين متطرفين في ولاية الاباما ويقوموا بحرق "حافلة الحريات ", حيث لا يتمكن سيسل لفترة طويلة من معرفة اذا كان ابنه حيا ام ميتا من بين ضحايا الحادث .
يقوم الرئيس كينيدي بتقديم مشروع قانون الحقوق المدنية بعد تعاطفه مع قضية العنصرية ، وهذا ما يسرع باغتياله ، حيث يتم اغتياله على ايدي مجهوليين في العام 1963 ، يحزن سيسل ورفقاؤه كثيرا لحبهم الشديد للرئيس الراحل ولتمسكهم بأمل الموافقة على مشروع كيندي للمساواة ، ويبكي سيسل عند رؤيته زوجة الرئيس التى رفضت تغير ملابسها الملطخة بدماء زوجها لكي يرى العالم اجمع ماذا فعل الإرهابيون بزوجها .
يتولى ليندون جونسون منصب رئيس الولايات المتحدة الاميركية ، ويتم اقرار قانون الحقوق المدنية الذي يدعمه جونسون ، ومع مرور الوقت تزداد حدة الخلاف بين سيسل ولويس بعد ان ينضم الاخير الى منظمة النمور السود المتطرفة ، وهي حركة حقوقية لسود الولايات المتحدة نشأت بعد مقتل مالكوم إكس وما عقبه من توترات راح ضحيتها أكثر من 300 مواطن أسود مما جعل جمعيات سوداء تؤسس ما يسمى بمنظمة النمور السود للدفاع عنهم. وقد كانت المنظمة تحمل السلاح ولا تنبذ العنف ودخلت في اشتبكات عديدة مع الشرطة مما جعل الكثير يصنفها كإرهابية آنذاك .
يصبح ريتشارد نيكسون رئيسا للولايات الاميركية عام 1969 ، ويركز اهدافه على تصفية منظمة النمور السود ويعترض بشدة على موافقة جاينز لمشاركة ابنه تلك الاعمال الارهابية للمنظمة ، وبدوره سيسل يقوم بطرد لويس من منزله اثناء زياته لهم هو وصديقته بالمنظمة وتهكمه عليه بـ"كبير الخدم" المتواطئ مع سياسة البيض من البشر وهذا ما قد اخبره اياه مارتن لوثر كينج سلفا اثناء اجتماعه بهم قبل ذلك.
حرب فيتنام "وفاة تشارلي"
يتطوع (تشارلي) الابن الاصغر لسيسل في الحرب بفيتنام ويلقي حتفه ، ويتأثر سيسل وغلوريا كثيرا بوفاته ، وبغضب جاينز كثيرا لعدم حضور ابنهم الاكبر لويس جنازة اخيه . يستقيل لويس من منظمة النمور السود بعد تبنيها أعمال العنف ويستأنف دراسته الجامعية وينتخب عضوا في الكونجرس الاميركي ، ولكن تظل علاقته مع سيسل متوترة ومضطربة .
يستمر سيسل في عمله بالبيت الابيض كبيرا للخدم ، وتتبدل رؤساء اميركا عليه داخل البيت فيتولى منصب الرئيس جيرالد فورد خلفا لنيكسون الذي يستقيل بسبب فضيحة ووتر غيت عام 1974، ويعد اول شخص يتولى منصب نائب الرئيس ثم الرئيس من دون ترشيح وانتخاب .ومن بعده جيمي كارتر الذي يصبح أول رئيس من الولايات الجنوبية منذ الحرب الأهلية الأميركية.
رونالد ريغان (1981)
يتولى رونالد ريغان منصب رئيس الولايات المتحدة الاميركية خلفا للرئيس كارتر، ويقوم الرئيس بتحسين المكانة المهنية لسيسل واختياره ليقوم بتوصيل اموال للفقراء والمحتاجين في السر ومن دون علم كبار موظفيه وزوجته التى تقوم بدعوة سيسل وزوجته لعشاء الولاية الرسمي كضيف وليس كبيرا للخدم ، وفي تلك الاثناء يقوم سيسل بمخاطبة كبير محاسبي البيت الابيض لكي يحصل منه على موافقة على توحيد الاجور وفرص الترقية بين الموظفين السود والبيض العاملين بالبيت الابيض ولكنه يرفض مما يدفعه للحصول على الموافقة من الرئيس ريجان شخصيا.
رغبة دفينة
مع مرور الوقت ، يشعر سيسل انه قد ظلم ابنه لويس كثيرا بشأن بحثه عن التحرر والمناضلة من اجل الحرية ، التى لم يعرفها منذ صغره ، وشعر برغبة دفينه لديه لمشاركة ابنه في سياسته المناهضة للعنصرية ، وسط سياسة التمييز العنصري لريجان في جنوب افريقيا ، ويتقدم بطلب استقالته من الخدمة بالبيت الابيض الى الرئيس ريجان ، الذي يخبره بعدم التسرع باتخاذ هذا القرار وانه من افضل كبيري الخدم في هذا البيت باشادة جميع الرؤساء السابقين ، وبالفعل يذهب سيسل الى احدى مظاهرات لويس المطالبة بتحرير مانديلا ويشترك معه ويخبره بأنه قد ظلمه كثيرا وخسره ، ويتم القبض عليهم من قبل رجال الامن ولكن سرعان ما يتم الافراج عنهم .
باراك اوباما (2009)
تمر السنون ، والمنية توافي غلوريا زوجة سيسل ، وتقفز الاحداث الى انتخاب الرئيس باراك اوباما في نهاية العام 2008 كأول رئيس اسود في تاريخ الولايات المتحدة ، ما يدعو سيسل وابنه لويس الى الفخر والاعتزاز .
يرتدي سيسل جاينز بدلته الانيقة ويضع مشبك "بروش" كبير الخدم ببذته ويتوجه الى البيت الابيض لمقابلة الرئيس اوباما بعد تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الاميركية .
فيلم قيم جدير بالاهتمام، يقدم قصة من خلال سياق تاريخي درامي مؤثر حاملا معه شحنة ذكريات عن معاناة الجالية الأفرواميركية مع التمييز العنصري خلال عقود طويلة ، كما انه يطرح تطور شخصيات مهمة شغلت المكتب البيضاوي وأثرت في البيت الأبيض ، وأحداث قد امتدت حتى عصر باراك اوباما اول رئيس للبيت الابيض من اصول افريقية .

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]