[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” أصبحنا نرى بعض نساء تونس لا تتورعن عن وضع كل المقدسات موضع الشك والجدل باسم ما يعتقدنه حرية وهو في الواقع تهور وتجديف. وبلغت بعض (المنظرات المناضلات) درجة ابتداع أديان جديدة غير مسبوقة كقول إحداهن على شاشة فضائية بأن (إسلامها هي) يتمثل في زيارة صباحية للزاوية البكرية (أحد مقامات الأولياء في تونس) وسباحة مسائية في شواطئ البلاد بلباس (البروتيل)...”
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكاد ملف الهوية ودور الدين في بلادي تونس ينحصر طرحه لدى بعض النساء كأنه ملف يهم المرأة دون الرجل ويستخلص الملاحظ أن بعض نساء تونس من الناشطات في المجتمع المدني والأحزاب وفي حوارات الفضائيات كأنهن خائفات من فقدان أو نقصان مكاسبهن الاجتماعية في صورة ما إذا تعززت هوية الشعب وفي حالة ما إذا تدعم التعليم الديني! وهو أمر غريب ومستراب لأن قضية الهوية مرتبطة أشد الارتباط بالتنمية حيث ثبت أن لا تقدم حقيقي لأمة بدون توظيف مخزونها الحضاري من لغة ودين وموروث ثقافي ولا يمكن لشعب أن ينهض باستيراد أدوات الحضارة من الأمم الأخرى.
لا يشك عاقل في أن نساء تونس ساهمن بقسط محترم في نهضة بلادنا بأدوات تراثنا الثري منذ ما قبل الإسلام إلى عصر الأميرة أروى بنت الأمير المنصور بن يزيد الحميري التي تزوجها أبو جعفر المنصور أول الخلفاء العباسيين حين لجأ إلى إفريقية (القيروان) قبل نجاح الدعوة العباسية فاشترط عليه والدها في عقد الزواج ألا يتزوج عليها وأن تكون عصمتها بيدها متى خالف هذا الشرط وسمي هذا الصداق بالقيرواني وعملت به كثير من المجتمعات الإسلامية منذ ذلك العهد ونذكر أيضا فاطمة الفهرية القيروانية التي أسست جامعة القرويين في فاس ثم العزيزة عثمانة التي أقامت عديد المشاريع الخيرية وصولا إلى عهد الاستقلال حيث تمتعت المرأة بثمار الاستقلال وارتادت المدارس والجامعات ودخلت مجالات العمل إلى جانب أخيها الرجل. إلا أن هذا التغيير العميق في هياكل المجتمع التونسي صاحبه ككل عمل ثوري كثير من الانحرافات الاجتماعية حولت وجهته إلى بعض مظاهر التسيب والانسلاخ والتطرف والتي نقرأ نتائجها الوخيمة في الإحصاءات المخيفة والمتمثلة في الأرقام القياسية التي ضربها مجتمعنا في نسبة الطلاق (زيجتان من ثلاثة) ونسبة الأمهات العازبات (1400 طفل يولدون سنويا خارج مؤسسة الزواج) وتفاقم ظاهرة العنوسة (مليونان وربع مليون عانس من 11 مليون تونسي) ونسبة التسرب المدرسي (100 الف سنويا أغلبه بسبب التفكك العائلي) ونسبة تعاطي المخدرات (37% من شبابنا ومراهقينا) ونسبة الأمراض النفسية (حوالي نصف التوانسة يعانون من الاكتئاب أو الاضطرابات العصبية حسب الجمعية التونسية للطب النفسي) ونسبة الإجهاض (التي قدرها وزير الصحة السابق د.محمد بن عمار بـ30 % من النساء بدون وجه حق ودون عذر طبي أو شرعي) ونسبة الأزواج المساجين حسب قانون عدم دفع النفقة إلى آخر هذه الإحصاءات الموضوعية التي تدعو للتساؤل والبحث والتحليل. وكل عاقل في بلادي مهما كان انتماؤه لا بد أن يقرأ هذه الإحصاءات والكوارث بعيون الأمانة والنزاهة والمنطق والرغبة في ابتكار الحلول الناجعة بعد التشخيص الحقيقي للداء. ويصطدم كل من يحاول الإصلاح بعقبات ذات طابع أيديولوجي (أي غير علمي بل مناف للأمانة الوطنية) لأن النخبة السياسية المفترض فيها فتح ملفات الإصلاحات الكبرى تسعى فقط إلى كسب أصوات الناخبات وحتى الأحزاب التي مرجعها القيم الإسلامية دخلت في هذا النفق المسدود ورفعت مع التيارات المنافسة شعار (خط أحمر) وبالطبع أصبحنا نرى بعض نساء تونس لا تتورعن عن وضع كل المقدسات موضع الشك والجدل باسم ما يعتقدنه حرية وهو في الواقع تهور وتجديف. وبلغت بعض (المنظرات المناضلات) درجة ابتداع أديان جديدة غير مسبوقة كقول إحداهن على شاشة فضائية بأن (إسلامها هي) يتمثل في زيارة صباحية للزاوية البكرية (أحد مقامات الأولياء في تونس) وسباحة مسائية في شواطئ البلاد بلباس (البروتيل) أي اللباس النسائي الخفيف الذي يكشف الكتفين والظهر وجزءا من الصدر! وبالطبع فإن هذه السيدة حرة تماما في اعتناق أسلوب الحياة الذي يناسبها وتختاره ولكن ليس من حقها منطقيا أن تسمي أسلوبها في الحياة ذاك إسلاما ! لأن التاريخ وهو الحاكم في مسار البشرية قرر منذ 15 قرنا كيف يكون الإسلام ومنذ 2000 سنة كيف تكون المسيحية ومنذ 5000 سنة كيف تكون اليهودية ! رغم كل ما طرأ على الأديان الثلاثة من اجتهادات وتفسيرات وتأويلات تعاقبت مع الأجيال بقصد تطوير شرائعها و ملاءمة نواميسها مع مقتضيات العصر. فالمتحولات الدينية أكثر من أن تحصى لكن الثوابت أي عقائدها ظلت هي ذاتها وهو ما يفسر كون الأديان لم تنقرض وإنما ازدهرت بل تنبأ بعض المفكرين الكبار مثل (أندريه مالرو) بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الأديان أو لا يكون. بعض النخب المنبهرة بالغرب المادي لا تريد أن تربط بين التنمية وبين الهوية بل بالعكس هي تدعو إلى نمو يقوم ضد الهوية. فالنمو croissance بالفرنسي growth بالأنجليزي ليس التنمية developpement أو development لأن النمو هو تكديس الإنتاج دون قيم أما التنمية فهي الارتفاع بالإنسان وتحصينه بالتربية الأصيلة وتهذيب نفسه بالثقافة وصقل مواهبه بزرع القيم والأخلاق والفضائل وروح المواطنة حتى لا يتحول الإنسان إلى أداة إنتاج ويتحول المواطن إلى مستهلك. وانظر حولك لتدرك أن ماليزيا وكوريا الجنوبية وفنلندة والسويد واليابان والصين وتركيا مثلا حققت أعلى درجات التنمية في ظرف عقود قليلة لأنها اعتمدت الحداثة الأصيلة بينما نحن في بعض دولنا العربية اعتمدنا الحداثة الدخيلة فأنجزنا النمو (لا التنمية) وظللنا نراوح مكاننا نتغنى بما نسميه الحداثة وما هي إلا التخلف والتخلي عن الهوية مهما لبست امرأتنا (البروتيل) حيث لا تتساوى موازيننا السنوية مع ربع ميزانية شركة (نوكيا) الفنلندية أو (سامسونغ) الكورية.