[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]
”.. أذكر هنا أنني التقيت بصديق قبل أيام كان من ضمن مجموعة تسنى له أن يلتقي عددًا من رؤساء الكتل السياسية العراقية في مسعى لإيجاد حل للأزمة القائمة، والغريب في الأمر أن صديقي أصيب بما يمكن أن أصطلح عليه التشوش الذهني؛ لأن أغلب الشخصيات التي التقاها كانت معلوماتها مبنية على ما ينشر في الإعلام عن الشخصيات الأخرى.”

تعدالمشاغلة الإعلامية واحدة من الأخطار التي هددت وتهدد المواطن العراقي الآن، وربما أمعنت في ذلك لمواطنين في دول أخرى تعيش أوضاعًا مشابهة سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا لما يعانيه العراق.
إن الجرعات الإعلامية اليومية التي يتلقاها هذا المواطن من صحف وشبكات تلفاز وإذاعات ومواقع إلكترونية ووكالات أنباء هي في حقيقة الأمر لا تخرج عن التوظيف الذي أطلقه الباحث السويسري المختص في شؤون الأخبار رولفدوبلي في كتابه (الأخبار فن التفكير)، واصفًا ما ينشر ويذاع ويمرر ويبث بأنه ليس سوى مخدرات تضليل للعقل البشري. وهو هنا لا يتهم كل الأخبار التي تتضمن حقائق وقراءات ميدانية دقيقة للأحداث والوقائع، وإنما الأخبار عندما تكون جزءًا من عملية التسويق السياسي العدواني الذي يتولاه هذا الطرف أو ذاك، مستخدمًا معلومات غير صادقة يريد نشرها لأهداف معينة، بل إن الوضع يتعلق حتى بالمعلومات الصحيحة التي يراد نشرها بانحيازية لأهداف معينة وليس من خلال الطرح الحيادي الموضوعي الأمين على المكاشفة، واعتبار الخبر رسالة للتوضيح وليس للعكس.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالعراق أيضًا، فحسب الواقع ومن متابعتي لأوضاع مواطنين على صلة قربى معي أو معرفة معينة أجدهم في اليوم الواحد يستبدلون قناعاتهم بما يجري من أحداث، بل ويتحولون من حالات الاحتقان إلى الانشراح وبالعكس تبعًا للجرعة من الأخبار التي يتلقونها في اليوم الواحد، فنجدهم متأزمين وكأنهم في متاريس تحت طائلة أن بغداد ستسقط في غضون ساعات بيد مسلحين، وأن الخزينة العراقية لن تكون قادرة على دفع مرتب شهر واحد لموظفي الدولة، ويدخل هؤلاء المواطنون مع بعضهم البعض ـ رجالا ونساء وأطفالاـ في شد عصبي وظواهر قلق ونسيان على أساس الجرع الإخبارية المتضاربة في معلوماتها.
والحال لا يوجد فلتر (مصفٍّ ذهني) لدى المواطن لأنه قد أدمن تناول هذه المخدرات الإعلامية، وتطبع عليها ويمارس نقلها إلى الآخرين وكأنها حقائق قد تم التأكد منها، في حين أنها مجموعة إشاعات أو أخبار مبتورة أو منحازة أو محدودة، مع العلم أن العراق شأنه شأن بلدان أخرى تزدحم عليه أجهزة إعلامية تواصل ضخ النفاق السياسي والإعلامي والتقول والتضخيم أو الاستصغار.
إن الأخبار بالجرع التي يتناولها المتلقي تضعه أمام ضياعات لا تحصى، وأذكر هنا أنني ألتقيت بصديق قبل أيام كان من ضمن مجموعة تسنى له أن يلتقي عددًا من رؤساء الكتل السياسية العراقية في مسعى لإيجاد حل للأزمة القائمة، والغريب في الأمر أن صديقي أصيب بما يمكن أن أصطلح عليه التشوش الذهني؛ لأن أغلب الشخصيات التي التقاها كانت معلوماتها مبنية على ما ينشر في الإعلام عن الشخصيات الأخرى، مع أنها صاحبة قرار وتمسك بمفردات الأزمة،إذا صح التعبير. ولم أجد ما أحل به عقدة التشويش التي أصابت صديقي إلا أن أعيد عليه قصة طريفة عن جندي كان سكان قريته يسألونه في كل مرة عندما يلتقيهم في إجازاته متى تنتهي الحرب يا مارك، فكان يجيب عندما يتكلم الجنرال، وقد تكرر السؤال والجواب عدة مرات بالمضمون نفسه، ويبدو أن سكان القرية أصابهم اليأس من أجابته، وحينما سألوه للمرة الأخيرة متى تنتهي الحرب يا مارك؟ألم يخبرك الجنرال؟ قال: نعم.لقد سألني الجنرال متى تنتهي الحرب يا مارك؟ وعودة للأحداث الجارية أجد في المادة الخبرية اليومية في ملاحقة حادث سقوط الطائرة المصرية في البحر المتوسط أن هناك عدة جرع من الأخبار المضللة التي سوقتها وسائل إعلام بذريعة البحث عن الحقيقة، ولم ينتبه أحد إلى ما قاله خبير عسكري مصري حين استضافته إحدى القنوات الإعلامية، فقد دعا إلى الكف عن المتاجرة بهذه المأساة قائلًا:إن الحادث يقتضي انتظار العثور على الصندوق الأسود لمعرفة ما جرى إنصافًا لأرواح الضحايا.
لقد كان استباقًا لا قناعة فيه أن تصدر المزيد من الأخبار والتقارير عن الطائرة المصرية المنكوبة قبل العثور على ذلك الصندوق وجمع المخاطبات من برجي المراقبة في مطاري شارل ديجول وأثينا، وبالمقابل أن أكثر من صندوق واحد الآن لا يعرف مصيره في أحداث سياسية وأمنية، ومع ذلك يتم التداول بها جزافًا.
إن رفع الكفاءة الذهنية للمتلقي كي يستطيع الفرز بين الأخبار هو أحد الحلول اللازمة، أو إصلاح الشأن الإعلامي نفسه، وهاتان مسألتان غاية في الصعوبة، بل والتعقيد إلا إذا توافر بيت القصيد، أعني أمانة المسؤولية السياسية.