[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. الغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولايات المتحدة الأميركية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الإسترتيجية والاقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي و توسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبيرالية العلمانية على ما سواها و دعوة الأمم الأخرى للإستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم ينس بعض المثقفين التوانسة هذا الشهر مجلة مجاهدة في ذكرى بعثها قبل استقلال تونس في أكتوبر 1955 وهي مجلة (الفكر) التي أسسها وأدارها الوزير المثقف محمد مزالي ـ رحمة الله عليه ـ على مدى ثلث قرن ونفس هذه الذكرى هي أيضا ( ويا لبؤس الثقافة) ذكرى موت المجلة سنة 1986 حين تمكن زين العابدين من السلطة قبل أن ينفرد بها ويقع نفينا من بلادنا فتوقف إصدارها وإلى الأبد. وكنت أنا صحبت الصديق محمد مزالي في منفانا الباريسي بإرادة الحكام الجدد الذين أبعدونا و قتلوا المجلة. وشعرنا في منفانا أنذاك أن صفحة نيرة من الفكر التونسي والعربي طويت بأيدي الذين أعطوا للثقافة بعدنا معاني أخرى إقتصرت على الرقص والغناء ودق الطبول وهز البطون حتى سمعنا عن الدكتورة فلانة في فنون الرقص والدكتور فلان في النوتة الموسيقية وقلنا في منفانا أن زمننا نحن انقضى ومضى ورحم الله إمرءا عرف قدر نفسه وانسحب (أو سحبوه) خارج الوطن وخارج الثقافة الرسمية الجديدة المبشر بها في عهد التحول ولا حول ولا قوة إلا بالله. كانت مجلة (الفكر) منارة بشهادة عدد كبير من الباحثين إحتضنت إنتاج الكتاب التوانسة والمغاربيين والعرب وقامت بأداء رسالة تاريخية وهي تعريف المغاربيين بقضية فلسطين وبالكتاب المشارقة وتعريف أشقائنا المشارقة بالفكر المغاربي وبقضية تحرير الجزائر و لم تكن الجزائر استقلت بل دشن المجاهدون فيها عهد المقاومة المسلحة المباركة كما أن تونس والمغرب لم يستكملا بعد مقومات إستقلالهما. فكانت (الفكر) رسالة شهرية جريئة في الوطنية والكفاح إلى جانب دفاعها المستميت عن اللغة العربية وأصالة شعوبنا وأداة التعريف بأمجادنا و التبشير بتحررنا الكامل ثقافيا و حضاريا رغم تصادمها مع التوجهات التغريبية السائدة رسميا. ثم إن (الفكر) لم تتردد في نشر النصوص الأدبية الأكثر طلائعية و إبداعا رغم تصادمها مع التوجهات التقليدية السائدة أدبيا فكسرت (الفكر) بعض أصنام القديم الموروث المتداول لتساند نصوص كتاب مجددين ثبت مع الزمن أنهم يعبرون بصدق عن روح العصر وضمير أمتهم أمثال البشير خريف وعز الدين المدني والحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمامي وفريد غازي وغيرهم كثيرون ممن لا أستطيع ذكرهم و تعدادهم. وهؤلاء هم أباء الطليعة الأدبية الراهنة التي لاتزال تبدع.
و لابد من القول أننا عندما فتحنا عيوننا نحن جيل ما بعد الاستقلال أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الاستقلال فأسسنا تيارا عروبيا ينادي بالتعريب ويرفض التغريب داخل الحزب الدستوري البورقيبي إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى وكان زعيم هذا التيار هوالمناضل الوطني محمد مزالي ـ رحمة الله عليه ـ وقد اجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لمدة واحد وثلاثين عاما من 1955 الى 1986 إغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة وتاريخه حافل بالإنجازات وخدمة الدولة في عهد بورقيبة بوزارة التربية و التعليم ثم الدفاع الوطني ثم الصحة فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم حيث أعلينا من شأن اللغة العربية وأثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم و الآداب و الفنون و الفلسفة والسياسة بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو وفولتير وفيكتور هيجو إمعانا في تغريبنا وتقليص معرفتنا بتاريخنا وبالتالي نشأ جيلنا وهو جاهل تقريبا بكل ما ومن صنع هويته وأسس حضارته فقد غادر الاستعمار أرضنا و ظل مستعبدا أرواحنا و وجداننا.
وشاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الإستعمارية الجديدة تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الاستعمار الثقافي والاقتصادي في الداخل فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الاضطهاد و الملاحقات والمنافي والسجون غفر الله لمن شردنا و أجهض رسالة التغيير والتأصيل.
وفي الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نعتقد اعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض تماما حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي. وهذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة إلتقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة المستقبل على ضوئها لا بمعزل عنها ولا ضدها وهو الخيار الأخطر.
ليس من الأمانة العلمية أن نعلن إنفرادنا نحن العرب باستعادة الوعي بقضية الحضارة وملف الهوية فالعالم من حولنا شرقا وغربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية مع اختلاف المنطلقات وتباين الأهداف. فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولايات المتحدة الأميركية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الاسترتيجية والاقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي و توسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبيرالية العلمانية على ما سواها و دعوة الأمم الأخرى للاستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.
وفي الحقيقة لم يبدع برنارد لويس ولا صامويل هنتنجتون ولا فرنسيس فوكوياما نظريات جديدة لكنهم أعادوا صياغة النظريات الإستعمارية والإستشراقية القديمة في شكل معاصر وصبوها في قوالب اللغة الحديثة المعولمة. فجدهم الفرنسي "إرنست رونان Ernest Renan" كان يقول في أواخر القرن التاسع عشر :" إن من واجب الحضارة الغربية أن تمدن المتوحشين و تخضعهم بالقوة لسادتهم البيض حتى يتعلموا قواعد المدنية و يتمتعوا بثمارها تلك رسالة الجنس الأبيض".
ووجد الإستعمار في هذا المنظر (من التنظير لا من النظر) وسواه كثيرون ما به يبررون الغزو و الاحتلال لنصف الإنسانية بل و ما يبرر الإستعباد والنخاسة وتجارة الرقيق. ولم يضف هنتنجتون إلى النظرية الاستعمارية سوى شكلها الجديد أي الإقرار بأن عصرنا الراهن لم يعد عصر الحروب العسكرية التقليدية بل أصبح عصر صدام الحضارات وبالطبع فإن هذا الصدام حسب استنتاجهم سيتوج بانتصار الحضارة الغربية وكذلك فعل برنارد لويس بأكثر حدة وتصميما إلى درجة أنه أصبح المرجع الأساسي لسياسة جورج بوش الإبن باعترافه يستلهم منه عقيدته العسكرية في حربيه على أفغانستان و العراق أما فرنسيس فوكوياما فحسم المعضلة بالإنحياز إلى الحل النهائي لنفس هذا الصراع بإعلان نهاية التاريخ بسيادة اقتصاد السوق والقيم الليبيرالية في العالم. وسبق للرئيس الأميركي الراحل نيكسون أن نعت انتصار العالم الحر على المعسكر الشيوعي بأنه نصر بدون حرب.
ومن نافلة القول التأكيد بأن العقيدة الحضارية للمحافظين الجدد إنما هي محاولة تطبيق نظريات هؤلاء المفكرين على واقع العلاقات الدولية ثم العمل على إعادة ترتيب هذه العلاقات الدولية إما بالدبلوماسية أو بالحرب.