[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” لم تضيع السلطنة وقتاً للشروع في تنفيذ سياساتها الرامية لتنويع مصادر الدخل وجذب الاستثمارات الأجنبية ؛ فكان توقيع اتفاقية منح حق الانتفاع والتطوير لإنشاء المدينة الصناعية الصينية العمانية بـ"الدقم" باستثمارات متوقعة تناهز الـ 10مليارات دولار لإنشاء أكثر من 35 مشروعاً من بينها 12 مشروعاً في مجال الصناعات الثقيلة توفر نحو 12ألف فرصة عمل,”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت السلطنة من الدول البترولية القليلة التي تنبهت لخطورة الاعتماد على النفط وسعت لوضع الخطط التنموية الهادفة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على مصدر وحيد لتحقيق التنمية, تجلى هذا المسعى في الرؤية المستقبلية لجلالة السلطان قابوس ـ حفظه الله ورعاه ـ التي طرحها من خلال النطق السامي في أكثر من مناسبة خلال مسيرة النهضة المباركة؛ ففي خطاب جلالته بمناسبة العيد الوطني السادس والعشرين أكد على أهمية وجود رؤية مستقبلية للتنمية عندما قال ـ حفظه الله ورعاه : " لابد لنا بعد أن خضنا تجربة رائدة في مضمار التنمية الشاملة؛ من تحديد رؤية مستقبلية للعمل التنموي تقوم على سياسات وأهداف محددة واضحة تسخر لبلوغها كافة الإمكانيات المتاحة والوسائل العلمية والفنية" .. وعن ملامح هذه الرؤية قال ـ أعزه الله ـ :" فإن ما توخيناه من وضع هذه الرؤية المستقبلية هو أن تكون انطلاقة للقرن الحادي والعشرين تمكن الاقتصاد العماني من تحقيق تحول استراتيجي , حتى لايبقى معتمداً على الإنفاق الحكومي وعلى الموارد النفطية والأيدي العاملة الوافدة, وإنما ينتقل إلى طور آخر أفضل وأشمل يجد قواعده المتينة الراسخة في المبادرات الخاصة والأيدي العاملة الوطنية المدربة , والموارد المتجددة المتنامية بحيث يؤدي كل ذلك بإذن الله وخلال فترة زمنية محددة إلى رفع مستوى المعيشة للمواطنين العمانيين وضمان استفادتهم إينما كانوا من ثمار عملية التنمية ...ونؤكد عزمنا على تنفيذ هذه الرؤية ومتابعة خططها وبرامجها وتوفير كل الإمكانيات اللازمة والظروف الملائمة لضمان مواصلة التنمية في إطار المحاور الأساسية التي حددتها.." .
ومازلت أتذكر العبارة التي وردت في المرسوم السامي الخاص بتوحيد جدول الدرجات والرواتب لموظفي القطاع الحكومي في 1/1/2014م ـ عندما كان سعر برميل النفط يقترب من 120دولاراً ـ والذي ترتب عليه زيادة كبيرة في أجور العاملين في القطاع الحكومي والذي ورد في ديباجته : " جدير بالذكر أن هذا الأمر سيؤدي لزيادة مخصصات الرواتب بموازنة الدولة لتصل إلى 39% من حجم الميزانية, وسيترتب عليها بعض الانخفاض في مخصصات الإنفاق الأخرى ومن بينها الإنفاق على خطط التنمية .. وتحسباً لأي انخفاض في أسعار النفط والغاز وهما موردان يسهمان إسهاماً كبيراً في إيرادات الدولة مما سيؤدي إلى انخفاض تلك الإيرادات فإنه ينبغي أن يظل العبء المالي في حدود الزيادة المقررة وألاّ يؤثر على الاحتياطي العام للدولة في حالة انخفاض أسعار النفط .
وكأن ماورد بالمرسوم السامي لجلالته تنبأ بما يحدث الآن من انخفاض كبير لأسعار النفط وضغط بند الأجور والمرتبات الحكومية على الميزانية وتأثير ذلك على تراجع الإنفاق الحكومي وتراجع المخصصات اللازمة لتنفيذ خطة التنمية , مما دفع حكومة السلطنة إلى ترشيد الإنفاق, والسعي لجذب الاستثمارات الأجنبية لتوفير فرص العمل واستكمال خطط التنمية, ولحسن الحظ فإن السلطنة تمتلك معظم مقومات جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية ؛ بتوافر البنية الأساسية من موانئ وطرق ومطارات ومرافئ بحرية ومدن صناعية على درجة عالية من الكفاءة والإتقان واستقرار سياسي واجتماعي وأمني وعلاقات خارجية متوازنة وفعالة؛ جعلت من عمان واحة للأمن والأمان, وسط عالم مضطرب يعج بالأزمات ومنطقة جغرافية مليئة بالصراعات , فضلاً عن الموقع الجغرافي الفريد بإطلالها على المحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي وخطوط ملاحية قريبة من السواحل الشرقية لإفريقيا والسواحل الغربية للهند وإيران وباكستان , وفوق ذلك كله التاريخ البحري التليد, ووقوعها في مسار طريق الحرير القديم الذي تسعى الصين جاهدة لإعادة إحيائه.
لم تضيع السلطنة وقتاً للشروع في تنفيذ سياساتها الرامية لتنويع مصادر الدخل وجذب الاستثمارات الأجنبية ؛ فكان توقيع اتفاقية منح حق الانتفاع والتطوير لإنشاء المدينة الصناعية الصينية العمانية بـ"الدقم" باستثمارات متوقعة تناهز الـ 10مليارات دولار لإنشاء أكثر من 35 مشروعاً من بينها 12 مشروعاً في مجال الصناعات الثقيلة توفر نحو 12ألف فرصة عمل, ولم يكن اختيار التنين الصيني للسلطنة لضخ هذ الاستثمارات من فراغ ؛ بل نتيجة توافر عوامل النجاح الذي يبحث عنه الصينيون في مشاريعهم الداخلية والخارجية, ولتاريخ التعاون المشترك بين البلدين الذي يعود لمئات السنين , والتعاون الاقتصادي المثمر في العصر الحديث الذي وصل بقيمة الصادرات والواردات بين البلدين لأكثر من 17مليار دولار ـ جزء كبير منها في مجال الطاقة ـ وشراكة ناجحة في مجالات النقل والاتصالات والصناعات المتطورة , بجانب العلاقات الثقافية والسياحية.
ويأتي مشروع المدينة الصناعية الصينية العمانية بالدقم في إطار إسهام السلطنة في مشروع صيني طموح أطلقته القيادة الصينية لإحياء طريق الحرير وفتح آفاق ومجالات جديدة من التعاون والشراكة مع العالم المتقدم شرقه وغربه, وتم اختيار ميناء الدقم والمنطقة الاقتصادية الخاصة لتشكل حلقة ربط رئيسية في سلسلة الموانئ العمانية التي تربط شبه الجزيرة العربية بأسواق إفريقيا وشبه القارة الهندية وإيران وآسيا الوسطى , وتمثل رافدا اقتصادية يمكن أن يستفيد من فوائده الجميع , كما أن مثل هذه المشروعات التنموية العملاقة تعزز دور السلطنة في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي بفضل علاقاتها السياسية والدبلوماسية المتطورة مع كافة الشركاء والأطراف الفاعلة في العالم وخصوصاً القوى الاقتصادية الصاعدة وعلى رأسها الصين .
هذا المشروع العملاق يحول السلطنة إلى مركز لوجيستي عالمي ومحور رئيسي للنقل البحري والبري ومدخل حيوي على الخليج العربي والممرات الملاحية وخطوط النقل والتجارة في المنطقة المحيطة, وتسعى السلطنة من وراء إقامة مثل هذه المشاريع الطموحة لجلب أحدث المعارف والتقنيات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والأفكار الجديدة التي تساعد في تعزيز القيمة المضافة وتطوير الموارد البشرية وتوفير فرص عمل مجزية ومستدامة للأيدي العاملة الوطنية, مع عدم إغفال الحفاظ وحماية البيئة من خلال استخدام تكنولوجيا الطاقة الخضراء وتوفير أقصى معدلات الأمان ومكافحة التلوث وتطوير المجتمع المحلي وإعطاء أبنائه الأفضلية في الحصول على فرص العمل.