[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
”.. عادت روسيا ومعها حلفاء وأصدقاء إلى موقع الاتحاد السوفييتي السابق من حيث القطبية السياسية الدولية، وهي تريدها تعددية أكثر مما تريدها ثنائية.. وأنها تملك من القدرات والقوة والمكانة والتحالفات والحضور الدولي ما يؤهلها لموقع مواز ومعادل ومكافئ لموقف الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وأنها دولة إن قالت فعلت..”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
زادت مساحة روسيا الاتحادية خلال شهر آذار/مارس 2014 بمقدار 78000 كم2 هي 52000 كم مربع مساحة الرصيف القاري لبحر أخوتسك في أقصى الشرق على مقربة من اليابان، الذي لم يكن يدخل في تبعية أية دولة، وتم ضم هذا الرصيف أو البحر تقريباً إلى روسيا بموجب قرار لجنة شؤون الرصيف القاري في الأمم المتحدة، والمساحة الأخرى وهي 26000 كم2 هي مساحة شبه جزيرة القرم التي أعيدت إلى روسيا الاتحادية بعد الاستفتاء الشعبي الذي جرى في الـ 16 من آذار/مارس 2014 وصوت فيه مليون و233 ألفاً و2 ناخب، أو ما نسبته 96.77 في المائة من المشاركين في الاستفتاء لصالح عودة شبه جزيرة القرم إلى أحضان الدولة الروسية. أي بموافقة 83.1 في المائة من مجموع الناخبين المشاركين في الاستفتاء، وموافقة روسيا على إعلان استقلال دولة القرم ومن ثم على قرارها الانضمام إلى روسيا.
وكان رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي نيكيتا خروتشوف، الفلاح الأوكراني الأصيل، قد ألحق " أو قدَّم " شبه الجزيرة إلى أوكرانيا إدارياً عام 1954 في العهد السوفييتي، حيث كانت أوكرانيا جزءاً من ذلك الاتحاد .. وهو تصرف قال عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه بمناسبة توقيع معاهدة انضمام القرم وسيفاستوبول إلى روسيا: "إن القرار بتسليمها تم اتخاذه في حينه بمبادرة نيكيتا خروشوف، الرئيس السوفييتي أنذاك، وذلك لأسباب "يعود البحث فيها للمؤرخين". وبهذا الخصوص أشار بوتين إلى أن عملية التسليم كانت مخالفة للأحكام الدستورية المعمول بها.
ولشبه جزيرة القرم التي يبلغ عدد سكانها مليونا و959 ألف نسمة حسب تعداد الأول من يناير/كانون الثاني 2014 ، أهميتها الاستراتيجية لروسيا، فهي تتموضع في البحر الأسود على مقربة من مضيقي البسفور والدردنيل اللذين يربطانه بالبحر الأبيض المتوسط من جهة، وهي عبر موقع القرم ترتبط أيضاً بالقوقاز ـ بما في ذلك شمال القوقاز الروسي ـ من جهة أخرى.
وقد كانت القرم منذ عام 1475 جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، واحتلها الروس في عام1771 في حربهم ضد تتار القرم المتحالفين مع العثمانيين وذلك في عهد الإمبراطورة كاترين التي يصفها الروس بالعظيمة، وبذا بدأت تبعية القرم لروسيا القيصرية، وخاض الروس في القرم عدة حروب، منها "حرب القرم" الشهيرة زمن السلطان عبد المجيد الأول 1553 ـ 1556 التي انتصر فيها الأسطول الروسي على الأسطول العثماني في معركة سنوب/ نوفمبر 1855/ وانتهت تلك الحرب التي شارك فيها حلفاء بالصلح في مؤتمر باريس 30 مارس/ آذار 1856، كما دارت معارك شرسة ومكلفة بشريًّا في القرم أثناء الحرب العالمية الثانية 1942 مع الألمان وكلفت الكثير الكثير من الضحايا البشرية عدا عن الدمار.
في عام 1921 أصبحت القرم جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ورحَّل جوزيف ستالين التتار من شبه الجزيرة أو معظمهم على الأقل.. وفي عام 1954 أتبعها خروتشوف إدارياً إلى أوكرانيا كما أسلفنا، وفي 21 مارس/آذار 2014 وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً بضم القرم ومدينة سيفاستبول إلى روسيا الاتحادية.. وقد هز هذا الحدث، ذو الدلالات البعيدة الولايات المتحدة وأوروبا في العمق، وتنادت تلك الدول التي لعبت الورقة الأوكرانية لفرض عقوبات على روسيا، لكنها لم تلبث أن تصدع جمعها وأخذت تتراجع عن مواقفها واحدة بعد الأخرى، نتيجة حسابات ومصالح، وربما كان قول الرئيس أوباما أكثر من دقيق وصحيح ومستند إلى استقراء للتاريخ والحاضر، حين قال في مرحلة من مراحل تلك الأزمة:"إن روسيا لن تتراجع عن ضم القرم إليها.".. وبدأت روسيا بعد ضم القرم إليها بحشد القوة على الحدود مع أوكرانيا في تطلع أوسع غايته الردع، ومطلبية أعلى غايتها لجم بعض المتطرفين الأوكرانيين والأوروبيين وإيقاف الأزمة عند حد.
وقد ختم الأمر بتحركات عسكرية ومشاهد سياسية لخصت مضامينها تصريحاتٌ، ونذكر من ذلك: التحرك العسكري الروسي إلى الحدود الروسية مع أوكرانيا، وزيارة رئيس الوزراء في روسيا الاتحادية ديمتري مدفيدف لسمفروبل مع عدد من وزرائه لاتخاذ إجراءات إدارية واقتصادية تخص القرم وسكانه من كل القوميات ومعظمهم روس، وهي زيارة استدعت احتجاج أوكرانيا بمذكرة أرسلتها إلى وزارة الخارجية الروسية لأن الزيارة تمت من دون "تنسيق؟" مع الجهات الأوكرانية، الأمر الذي ردت عليه الخارجية الروسية بلهجة " صقيعية ـ سيبيرية" حاسمة، حيث قالت: "لا نفهم عن أية مذكرة قد يدور الحديث، علما أن القرم أرض روسية"!؟..
وفي لقاء الوزير لافروف الأخير مع الوزير كيري في باريس 30 مارس/ آذار 2014 جاء التصريح الروسي ذو الدلالة الأبعد من الحدث الذي هز أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وهو ضم القرم إلى روسيا، جاء التصريح غاية في القوة والوضوح:".. إن روسيا لا تتخاذل ولا تنصاع لضغوط من يريد أن تقر روسيا بشرعية الانقلاب الأوكراني دون قيد أو شرط، ولن تتخلى عن دعم الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا، ولن تتخلى عن شبه جزيرة القرم التي عادت مؤخرا إلى أحضان الدولة الروسية بمشيئة أهاليه وغالبيتهم روس.".
كان قصدي من المقدمة السابقة الخلوص إلى نتيجة رئيسة مفادها أن روسيا الاتحادية وصلت عمليًّا، بعد عدة مواقف لافتة أبرزها الموقف في القرم، إلى إعلان لا جدال في واقعيته وثباته يقول:" لقد انتهى عصر القطب الوحيد في السياسة الدولية، وانتهت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على القرار الدولي، وعادت روسيا ومعها حلفاء وأصدقاء إلى موقع الاتحاد السوفييتي السابق من حيث القطبية السياسية الدولية، وهي تريدها تعددية أكثر مما تريدها ثنائية.. وأنها تملك من القدرات والقوة والمكانة والتحالفات والحضور الدولي ما يؤهلها لموقع مواز ومعادل ومكافئ لموقف الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وأنها دولة إن قالت فعلت.. ومواقفها كافة متطابقة مع القانون الدولي ومساندة له وحريصة عليه.". وقد كان للموقف الروسي من الأزمة السورية، وللصمود السوري في الأزمة/الحرب، ولقدرة الجيش العربي السوري على التصدي للمسلحين والإرهابيين وحلفائهم الكثر، ولثبات الدولة واستمراريتها في الأداء على الرغم من حجم التحالف ضدها.. دور أساسي، ليس في الإرهاص بظهور القطبية السياسية الدولية الثانية متجلية في الاتحاد الروسي إلى العلن، بل وبالدفع الفعلي باتجاه الإعلان العملي المقتدر عن ذلك الظهور بقوة وعزم على المواجهة والثبات وانتزاع الموقع والاعتراف بالدور والمكانة.
من المؤكد أن الروس لن يتراجعوا في موضوع القرم، فتلك قضية خارج النقاش.. وحين دفعوا قطعات من جيشهم إلى الحدود مع أوكرانيا كانوا واثقين من أنهم يرسلون رسالة جادة ومكلفة من جهة ولا تراجع عنها من جهة أخرى، إن لزم الأمر لأن الأمر يهددهم في عقر دارهم.. وهي رسالة تحمل في طياتها أهدافاً ومطالب تتجاوز ضرورة أن ينسى المعنيون بالقرم من غير الروس ما يفكرون به حول مصيرها والقرار الروسي المتخذ بشأنها.. ومن تلك الأهداف ـ المطالب الأخرى أنها تحرض على قيام فيدرالية أو كونفدرالية في أوكرانيا، وعلى استفتاءات شعبية في مناطق ثلاث على الأقل في شرق أوكرانيا تقود إلى دول مستقلة أو إلى انضمام مقاطعات إلى دول مستقلة.. وهي رسائل كان لا بد من إرسالها إلى من يعنيهم الأمر في أوكرانيا وخارجها ممن حميت رؤوسهم وفكروا بانكفاء الدب الروسي إلى الصقيع السيبيري.. وقد فهم الغربيون مضمون الرسالة، وأخذوا في التراجع عن التشدد والتمدد، وبعدها أخذ الروس بالتراجع عن حشد الجنود على الحدود نتيجة للتراجع الغربي عن التهديد والوعيد.
لا يعني هنا الحديث عن الأسباب وراء ذلك، فالتداخل في المصالح الحيوية والتبادل التجاري والاعتماد المتبادل بين الأطراف المعنية بموضوع شبه جزيرة القرم كبير وكثير، كما لا يعنيني التفصيل في قدرة روسيا الاتحادية على تفريغ عقوبات الغرب من مضمونها بما تملك من سعة وقوة وعلاقات وتحالفات، ولا أريد مقارب التفصيل في قدرتها على التأثير في أوكرانيا التي تبلغ مديونيتها لروسيا من الغاز فقط 11 مليار دولار وليس لها غنى عن المزيد منه حتى بعد أن أعاد الروس تسعيره وفق سعر السوق وليس بقيمة تفضيلية كما كانت تبيعه إليها، وذلك ابتداء من الأول من نيسان/ ابريل 2014.. إنما الذي يعنينا التركيز عليه هنا هو وصول روسيا إلى مواقع هي أهداف ثابتة يأتي على رأسها وقوفها لاعباً كبيراً في السياسة الدولية موازياً تماماً للاعب الأميركي الذي أثقل نفسه بالأخطاء والتآمر وتوسيع دوائر التدخل في شؤون الدول والشعوب، وطغت على تفكيره وسلوكه العنجهية والهيمنة، وأكثر من ارتكاب الحماقات والدخول في المخاطر التي يجرها عليه وعلى سواه.. ابتداء من الحرب على أفغانستان والعراق وانتهاء بالحرب على سوريا وتفاعلات أزمتها/ الحرب الآن، ومخاطرها على المنطقة.. وهو بأسباب من ذلك كله أخذ ينوء تحت ثقل ما يحمل، اقتصاديًّا على الخصوص، والاقتصاد عصب السياسة كما يعرف العارفون.
لقد اختار "الكبْشان" المتناطحان، الأميركي والروسي، فيما يبدو ظاهريًّا أن يتعاونا في قضايا تم الاتفاق على التعاون في مجالاتها، ومنها ما يتعلق بالأزمة السورية، حيث لم يتخل أي طرف منهما عن الحل السياسي للأزمة ولا عن جنيف، ولم يذهب الطرف الأميركي إلى حد الإعلان عن عزمه على تزويد المسلحين في سوريا ومن يسميهم المعتدلين منهم خاصة، بصواريخ مضادة للطائرات من تلك المحمولة على الكتف.. خوفاً من تسربها إلى من لا يرغب الأميركيون وحلفاؤهم في أن تقع بأيديهم، كما قالوا.. وهذا النوع من التسليح وسواه من الدعم الأميركي ـ والأوروبي ـ والعربي، كان أحد القضايا التي بحثها الرئيس باراك أوباما مع العاهل السعودي في روضة خريم أثناء زيارته الأخيرة للرياض التي يبدو أن محورها الرئيس طلب الضغط على الفلسطينيين ليوافقوا على تمديد مهلة التفاوض وعدم اللجوء إلى الهيئات الدولية وتقديم ما تطلبه إسرائيل منهم على طبق من ذهب غارق في دمائهم؟!.. وقد أشار الوزير كيري في حديثه مع الوزير لا فروف في 30 آذار/مارس بباريس إلى موقف الولايات المتحدة من موضوع هذا النوع من التسليح في هذا المجال.. وعلى الرغم من أنني لا أثق مطلقاً بالساسة الأميركيين، وأعتبر الكثير من كلامهم ومواقفهم وسياساتهم خدعاً وكمائن، إلا أنني آخذ ما لخصه الوزير لافروف في هذا الموضوع، بعد لقائه في باريس مع كيري، على محمل الجد، لا سيما بعد الصعود الروسي أو التصعيد الروسي ذي النتائج الملموسة والانعكاسات المؤثرة في السياسة الدولية وفي العلاقات الثنائية مع الأميركيين خاصة والأوروبيين عامة، حيث قال لا فروف بعد ذلك اللقاء:" إنه وضع على طاولة المحادثات مع كيري تلك المعلومات التي تتناقلها وسائل الإعلام عن تناول الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته للمملكة العربية السعودية موضوع تزويد المعارضة السورية مضادات أرضية، موضحا أن كيري أكد أن واشنطن تعارض هذا الأمر"، ووصف وزير الخارجية الروسي معارضة واشنطن لهذا الأمر بأنها "خطوة تتفق تماماً مع الاتفاقيات الأميركية - الروسية على حظر تصدير أنظمة الدفاع الجوي إلى أية نقطة ساخنة".
يقول محللون في الإعلام الفضائي الذي يزوبع الحقائق ويَكْثَح الرمال في العيون: "إن الروس سيقايضون الأميركيين في موضوع سوريا لتسلم لهم القرم"!؟ وقد كان حديث من هذا وعنه في بداية الأزمة، أزمة القرم، لكنا لم نجد له أية ظلال أو مرتسمات على أرض الواقع، وفي تقديري أن الروس لا يقايضون على سوريا ولن يفعلوا ذلك، وأن روسيا بعد صعودها الملحوظ سوف تتشبث أكثر بمواقفها التي أعلنتها مرارا وكررتها تكراراً، حيث قالت إنها لا تدافع عن شخص أو عن حكم في سوريا بل تدافع عن القانون الدولي وعن ميثاق الأمم المتحدة قبل كل شيء، وتقف بوجه من يرى أن من حقه التدخل في شؤون الدول والشعوب ويفرض من يشاء حاكماً ويزيل من يشاء من الأنظمة والحكام، وأنها لا تريد أن يتكرر موضوع ليبيا المأساوي في سوريا أو في غيرها من البلدان، حيث الغدر الغربي كان واضحاً ومدبراً ومدمراً..إلأخ، وروسيا من زاوية نظر أو من جهة أخرى أخرى تدافع عن نفسها وعن حدودها وعن مصالحها وعن مجتمعها فيما تراه خطر الإرهاب الزاحف نحوها، والتواطؤ الغربي " الأطلسي" الرامي إلى نصب منظومة الصواريخ التي تهدد أمنها، وتصميم الغرب على قضم دول محيطة بها ليصبح الخطر من بعد في عقر دارها.. إلخ.. وفي تقديري أن روسيا الاتحادية التي تحتل الآن مع حلفائها الحاليين والمحتملين موقع القطب الدولي المكافئ للقطب الغربي لن تفرط بالمبادئ والثوابت الدولية التي أعلنتها، ولا بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة التي قررت أن تراعي أحكامهما وتفرض احترامهما، ولا بالدول التي تتحالف معها أو ترى فيها نصيرا، ولا بما تراه أخلاقيات في السياسة يجب أن يكون لها حضور ولو نسبي لكي يبقى هناك قانون دولي وقانون إنساني دولي ومنظمات دولية، وشعوب ودول تتمتع بالأمن وتتطلع إلى السلام عبر المنظمة الدولية والهيئات المنبثقة عنها والقوى الحاملة والحامية لتلك المرجعيات القانونية والأخلاقية والإنسانية.. وآمل أن أكون على حق فيما أذهب إليه من رأي ورؤية، فتلك من مسؤوليات القطب الدولي المكافئ وواجباته.