ما تشهده المنطقة اليوم من عروض شتى للإرهابيين والمتطرفين والتكفيريين، وحفلات صخبهم وجنونهم في الساحات المستهدفة التي باتت تضيق بهم، ولم تعد تتسع لفتاويهم وإجرامهم، بعد أن وفرت لهم الدول الداعمة ما يشتهون من الطيبات، يعكس النجاح الكبير والمنقطع النظير للولايات المتحدة ومن معها من ذيول وأدوات في أخذ المنطقة إلى مذابح الفتن الطائفية والمذهبية، منذ احتلال العراق وبذر بذور هذه الفتن المقيتة استنادًا إلى الحكمة الاستعمارية البريطانية "فرق تسد"، حيث لم يكن أمضى سلاح في الفعل والنتيجة من سلاح المذهبية والطائفية لنحر شعوب المنطقة المستهدفة لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتثبيت ركائز مشروعه الاحتلالي في ربوع المنطقة، وخاصة في الدول التي تقف منه موقفًا مشرفًا من احتلاله الغاشم وجرائم حربه بحق الشعب الفلسطيني.
هذا النجاح الأميركي لا يزال يوالي نتائجه الخادمة للسياسات الأميركية ـ الصهيونية ـ الغربية في المنطقة، حيث غَدَا سيف الطائفية والمذهبية مسلطًا على رقاب حكومات عربية عند القيام بواجباتها تجاه دولها وشعوبها، ودفع الشرور عنها وصون ترابها وسيادتها وتأمين سبل العيش الكريم لمواطنيها وردع التدخلات الخارجية.
ومن ينظر اليوم إلى تحركات الحكومتين العراقية والسورية وما تواجهانه من هجمات مبرمجة ومخططة إعلامية وسياسية وطائفية ومذهبية، يدرك حجم النجاح الصهيو ـ أميركي في تزييف الوعي لدى السواد الأعظم من الناس، وإثارة نوازع الطائفية والمذهبية المقيتة والبغيضة في أنفسهم، وإلباس أي جهد يصب في خانة مصلحة الدولة ومواطنيها لبوس الطائفية والمذهبية، ومدى القدرة السياسية والإعلامية المدعومة من قوى داخلية في تجذير الأبعاد الطائفية والمذهبية وتعميقها لخدمة أهداف وأجندة استعمارية.
وما تشهده مدينة الفلوجة من هجمات إعلامية مخططة وموضوعة بعناية لتعميق الشرخ المجتمعي الذي قام به الاحتلال الأنجلو ـ أميركي للعراق، وفرز الشعب العراقي إلى طوائف وأعراق (سنة وشيعة وكرد وأيزيديين وشبك ومسيحيين وغيرهم) على خلفية اضطلاع الحكومة العراقية بواجبها القانوني والشرعي والأخلاقي بتخليص المدنيين العراقيين من جرائم تنظيم "داعش" الإرهابي الذي يحاصرهم داخل المدينة ويتخذ منهم دروعًا بشرية، هو مؤشر خطير على مضي أميركا وكيان الاحتلال الإسرائيلي وذيولهما وعملائهما ليس فقط نحو تأجيج نار الصراعات الطائفية والمذهبية، من أجل القضاء على الحضارة والقيم وكل ما بناه العراق والدول العربية المستهدفة، وإنما من أجل أن تبقى الشروخ والجروح في المنطقة غائرة تنزف، بل مطلوب منها أن تنزف بغزارة، في حين أن الذين يقودون التأجيج الطائفي والمذهبي ويصورون تدخل الجيش العراقي لإنقاذ أهالي مدينة الفلوجة بأنه "حرب شيعية ضد السنة" هم الذين يدعمون تنظيم "داعش" ويوفرون له ما يحتاجه من مال وسلاح، إضافة إلى البيئة الحاضنة.
والسؤال الذي يطرحه الواجب الأخلاقي والقانوني والشرعي للجيش العراقي بإنقاذ المدنيين المحاصرين من قبل "داعش" الإرهابي في مدينة الفلوجة هو: هل يجوز أن يؤطر قيام أي حكومة شرعية بواجباتها نحو مواطنيها بإطارات طائفية وعرقية ومذهبية، أو يوضع في سياقات سياسية غير موضوعية وغير عقلانية؟ وهل يحق للشعب العراقي أو أي كان أن يصف تدخل الجيش أو الشرطة الأميركييْنِ لفض اشتباك بين البيض والسود بأن تدخلهما هذا هدفه قتل السود أو دعم حرب البيض على السود؟ أو قيام الجيش الأميركي بعملية إنقاذ مواطنين أميركيين تحاصرهم عصابة مجرمة في أي مدينة أميركية بأن الجيش يهدف إلى إبادة المواطنين الأميركيين المحاصرين؟ بينما في مثل وضع الفلوجة هناك من يدعم ويوفر البيئة الحاضنة لـ"داعش" من منطلق مذهبي أو من منطلق الخوف من التعرض للقتل، وهناك من يرفض جرائم التنظيم ويحاول الهروب، لكن إرهابيي التنظيم يستخدمونه دروعًا بشرية. ومع تمكن الجيش العراقي من إطباق الحصار على مدينة الفلوجة وعدم تمكن إرهابيي "داعش" من الفرار كما حصل في الأنبار، من الوارد أن يسقط ضحايا في المواجهة، لا سيما أن إرهابيي التنظيم ـ وحسب تصريحات العسكريين الأميركيين ـ سيقاتل التنظيم حتى آخر "جندي"، ما يعني أن لجوءه إلى استخدام المدنيين دروعًا بشرية أمر مؤكد.