[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
” كان أبو رأفت يظل يدور حولي مثل ملاك حارس. يسألني إن كنتُ أحتاج شيئا؟ يذهب في الواحدة صباحا للنوم, ويتركني. استغربت من صحواته المستمرة كل ساعة تقريبا, يحضر لتفقدي وسؤالي من جديد. ليس صعبا عليّ الاستنتاج بأنه الحرص على راحتي. أظل ساهرا حتى الصباح وأكون قد أنجزت ما أريد أ تناول الفطور واذهب إلى العيادة.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما أصعب الكتابة بصيغة الماضي عن أشخاص تحبهم. هم إخوة لك لم تُنجبهم أمك. أدرك أن الصعوبة تزداد عمقا في الحالة الفلسطينية! حيث التشتت والافتراق القسري عن وطن يسبحُ في شرايين أبنائه, يُغذّي أملا دافئا في انتظار العودة المظفرّة يوم ينبلج الصبح جمالا على شاطىء بحرنا, وينعكس سحر مياهه نداء بالعودة. في الموت تفرضُ الذكريات نفسها عليك, رغم أنها مجبولة بظروف من القهر الانساني, من خلال مصادرة الحرية, لكنها تظلّ أحداثا جميلة, كونك تعرفت بمناضلين كبار, فيكون للعاطفة ألقها.. توقدها.. سحرها الإنساني الجميل. أدرك, اننا نتوه في عرَض الأشوك ترحالا .. لكن المناضل في صلابته يظلّ مثلَ حجر الماس, تدعكه الصعوبات فيزداد توهجا. نعم, المناضلون رقيقو الشعور..يمرون مثل نسمة جميلة في يوم قائظ... معطاؤون مثل بيادر قمحنا الفلسطيني. جمع أبو رأفت كلّ هذه الصفات مجتمعة.
عرفته في سجن نابلس في أوائل عام 1969. كان بمثابة أخ ثان لي, فيه, ورفيق درب الكفاح في مقاومة الأسرى للسجانين. كانت ظروف السجن آنذاك في منتهى الصعوبة ,فالعدو الفاشي يعمل دون كلل, على قهر إرادة الأسرى. لكن المناضل الفلسطيني يظل حتى في سجنه, شعلةً للكفاح. نعم, في السجن تُخاضُ معارك . صحيح أنها ليست بالسلاح, لكنها معارك بين إرادة يحاولون كسرها من خلال ظروف قهر الحرية, وكل الأساليب الما بعد نازية ,لكن مقاومة الفلسطيني تظلّ مشتعلة حتى في أحلك الظروف والصعاب. كنتُ في مطلع شبابي آنذاك. ونهلتُ من صمود من سبقوني الشيْء الكثير.. دروسا في الكبرياء الفلسطيني الأصيل في أحلك اللحظات, صمودا اما المحققون الما بعد فاشيين, تجارب في اقتسام اللقمة مع الآخرين, وكيفية الانتصار في اضرابات ومعارك الأمعاء الخاوية. كان أبو رأفت أحدَ المعلمين, الذين خضتُ كل تلك التجارب معهم. ظللتّ في ذات السجن سنة, حتى تم نقلي إلى سجن آخر بسبب فتح قضية جديدة. انقطعتُ عن محمد عوض. وبعد قضاء سنة أخرى في السجن, تم إبعادي, ولم أره أثناء دراستي في موسكو.
المرحوم أبو عوض من مواليد عام 1945 في قرية ميثلون. القرية, المنزرعة عميقا في التاريخ, فقد توالت عليها الحضارات الكنعانية واليونانية والرومانية والبيزنطية, وصولا إلى عهدها العربي الفلسطيني الكنعاني الاصيل. الممتد جذورا إلى أهلنا الكنعانيين. تعود ميثلون في تسميتها إلى خضرة سهولها وانبساطها, فهي تعريب للكلمة الكنعانية "ميتلون" وتعني سهول خضراء ومنبسطة كثيرا. تفتح الوعي الوطني للمناضل (أبو) عوض مبكرا,فانضم في عام 1962 إلى جيش التحرير الفلسطيني. ثم انتمى إلى حركة القوميين العرب ومن ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. قاتل العدو الصهيوني منذ احتلاله للضفة الغربية عام 1967من خلال دوريات تعبر نهر الأردن. اعتقل في إحداها عام 1968.بقي في السجن حتى عام 1972 حيث تم إبعاده إلى الأردن .
حيث التقينا من جديد عام 1980 بعد تخرجي في موسكو وإيفادي إلى الأردن. كانت فرحتي بلقائه كبيرة. كان بيته ملجأي في أوقات كثيرة, وبخاصة اضطراري لكتابة نشرة دورية للتنظيم في الاردن. أصل إلى بيته بعد إقفال عيادتي ليلا. تُحضر الأخت العزيزة ام رأفت عشاء فلسطينيا لذيذا من حواضر البيت. أجلس بعد استراحة إلى طاولة مكتب صغير.ثم أبدأ الكتابة.
كان أبو رأفت يظل يدور حولي مثل ملاك حارس. يسالني إن كنتُ أحتاج شيأ؟ يذهب في الواحدة صباحا للنوم, ويتركني. استغربت من صحواته المستمرة كل ساعة تقريبا, يحضر لتفقدي وسؤالي من جديد. ليس صعبا عليّ الاستنتاج بأنه الحرص على راحتي. أظل ساهرا حتى الصباح وأكون قد أنجزت ما أريد,أ تناول الفطور واذهب إلى العيادة. في إحدى المرات زرته عصرا من أجل شيء لا أتذكره. فجأة فإذ بالجيران يدقون باب البيت بعنف. خرج أبو عوض ليرى الأمر ولحقته. كانت سيارتي في غير محلها. تبين أن ابنه رأفت (5 سنوات) أخذ مفتاح سيارتي وفتحها. لم يُدر محركها, بل فك آلة التوقيف, انتبه الجيران إلى سيارة تتحرك دون سائق, اقتربوا فرأوه وراء عجلة القيادة. سارع أحدهم إلى الدخول اليها وأوقفها . لولا العناية الإلهية لحدثت كارثة.
طورد أبو عوض في الأردن مما اضطره للخروج إلى لبنان.التحق بالجناح العسكري للجبهة الشعبية, وكان أحد قادتها العسكريين, قاتل العدو الصهيوني في عدوانه عام 1982. وتم أسره مرة أخرى. خرج من معتقل أنصارعام 1984. عاد إلى الأردن واضطر للخروج مجددا, إلى سوريا هذه المرة. رفضت سلطات الاحتلال دخوله للالتحاق بعائلته في بلدته ميثلون. دخل إلى غزة عام 2006 وبقي فيها حتى وفاته قبل أيام.
كان بيته في لبنان ملجأ للمقاتلين ( مثلما حدثتني زوجتي ليلى وغيرها) واستحمامهم , وبخاصة للمقاتلات ممن لا اهل لهن في لينان. تطبخ أم رأفت على اعتبار أن قادمين جدد سياتون على الغداء. هذا يتكرر يوميا. أخي وصديقي ورفيق عمري.. ذهبتَ بعيدا ,لكنك الحيّ بيننا. مثّلت بشجاعتك وتضحياتك وعطائك فارسا فلسطينيا عربيا كنعانيا أصيلا. سأظل اقدرّ فيك أنك اعتبرتني أخا لك. وكنت تنادي ليلى زوجتي بـ "زوجة أخي".أرجو أن أمثل ما حييت هذه الكلمة.هذا عهد أقطعه على نفسي. أخي الغالي: بالفعل " هذا هو العرس الفلسطيني ... حيث لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيدا أو شريدا"! صدق محمود درويش في تصويره للحالة الفلسطينية. وداعا أيها الصديق. ولترقد روحك بسلام.