شهر رمضان مدرسة إيمانية لجميع المسلمين في كل زمان ومكان، بما يحض عليه من قيم الصبر على المكاره وضبط الشهوات ونوازع النفس البشرية أمام إغراءات الدنيا الفانية، وإعلاء الجانب المشرق في النفس وتزكيتها، إضافة إلى أنه شهر التكافل والتراحم والتعاضد، بما يحرص عليه من تأكيد لقيم البر والإحسان وبذل النفس في التصدق ومساعدة ذوي الحاجات والإنفاق ببذخ في أوجه الخير احتسابًا لوجه الله الكريم وطلبًا لمرضاته، وتقويمًا للنفس الأمارة بالسوء، وضبطًا لها من مظاهر الإسراف والتبذير، وتطهيرًا لها من البخل والشح، والشعور بما يشعر به الفقراء والمعوزون والمساكين، فتفيض نفس المسلم سخاء على ذوي القربى والجيران ومن به كرب، مع التبرع النقدي والعيني للمشروعات ذات النفع العام كشق طريق أو حفر بئر مياه أو استزراع مناطق ظليلة أو بناء مساجد أو تخصيص جوائز عينية ونقدية لتشجيع الناشئة على حفظ القرآن الكريم وعلى الثقافة العامة، أو إفطار صائم، وغير ذلك من أوجه البر والإحسان.
ورمضان مدرسة إيمانية أيضًا في الثبات على المبدأ أو الإنفاق في سبيل الله بالغالي والنفيس والثبات على المبدأ أو الثقة في النصر وفي الذات، ضرورة لتقوية النزعة الإيمانية في نفوس المسلمين، ولمواجهة الذين يتربصون بالمسلمين سوءًا، ويحاولون قدر استطاعتهم إطفاء مشاعل الهدى وتقويض منارات التوحيد (ويأبى الله إلا أن يتم نوره). ولعل معركة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان هي خير ترجمة للمعاني الإيمانية لمدرسة الصيام.
ونحن نستقبل اليوم أولى النفحات الإيمانية المباركة لشهر رمضان، شهر التطهر والذكر والرحمة والمغفرة والعتق من النار، جدير بنا أن نقف وقفة حميدة نصدق فيها مع النفس، ليس فقط لنعيد الألق إلى جوهرها الخالص ومعانيها الأسمى، وقفة نهذب فيها الطبع، ونقيم المعوج، ونصلح ما فسد، ونراجع حساباتنا وتعاملاتنا مع الله والناس، ونستبين من خلالها مواضع أقدامنا في اللحظة الراهنة، ونرسم المسار السليم للمقبل من مراحل. وإنما يجب أن نقف وقفة جادة وصادقة مع النفس لمراجعة أنفسنا وحساباتنا من شدة فرط ما لحق الإسلام والمسلمين من تشويه وتحريض وانتهاك لحرمات هذا الدين الحنيف وأتباعه، السبب الأكبر في ذلك من هم محسوبون أو ألصقوا أنفسهم عنوة بالإسلام الرسالة الخاتمة والشاملة والصالحة لكل زمان ومكان، ومن هم محسوبون أو ألصقوا أنفسهم بالعروبة التي فيها مظاهر المروءة والنخوة والشهامة وإغاثة الملهوف واحتضان الآخر والتسامح والعفو عند المقدرة، فتمردوا على هذه المبادئ كلها فتخندقوا في خنادق الأعداء، وباتوا نباتات سامة تلوث أرض العروبة الإسلام. فكم هو مؤلم ومحزن أن يحل شهر الصوم شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران وتعيش أمة الإسلام في أتعس أيامها وأسوأ أزمانها، جراء التنكر والإنكار للمبادئ والقيم والأخلاق والتسامح التي جاءت بها رسالة الإسلام السمحة وأكدت الصفات الحميدة والقيم الأخلاق التي اتصفت بها العروبة. فالألم أشد الألم أن يصوم أهل الإسلام هذا الشهر المبارك وقد تفرقت بهم السبل، وأن يصوم ملايين من أتباعه في المنافي وتحت الخيام وقسوة الحر والقيظ وشظف العيش وبؤس الحياة بعدما كانوا في سلام ووئام وعيش كريم واستقرار في أوطانهم ومساكنهم، وقد أودى بهم إلى هذه الحال المزرية في مخيمات اللجوء والمنافي أولئك المحسوبون أو الملتصقون بالإسلام والعروبة، وحاشا الإسلام والعروبة عن ذلك.
إن شهر رمضان المبارك، بما أسبغه الله تعالى على أيامه ولياليه من فيوض وإشراقات روحانية، فرصة سانحة لتزكية النفس وتطهيرها من الأدران والشهوات، وتطييبها بالفضائل والمكرمات، وغسلها من دنس الذنوب والأخطاء والأوهام بالأعمال الصالحات، والعمل بذات القدر على إعادة وصل ما انقطع بين الناس بعضهم بعضًا، وتعميق مبادئ الأخوة الإنسانية وتجسيد قيم التراحم والتكافل والتعاضد الاجتماعي، وفرصة سانحة لكل من انتمى إلى الإسلام حقًّا أن يعيد حساباته، وأن يعود عن ما تسبب فيه من كوارث ومآسٍ لإخوانه وأشقائه المسلمين في العقيدة والدم، وأن ينبذ الأحقاد والكراهيات والعصبيات الطائفية والمذهبية المقيتة القاتلة المدمرة.. فهذه هي رسالة الإسلام السمحة، وهذه هي رسالة مدرسة الصوم الإيمانية.