ناصر بن محمد الزيدي

الحمـد لله والصـلاة والسلام عـلى سـيـد خـلـق الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وعـلى مـن تبعهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد:
فـقـول الله تعـالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الـزمـر ـ 42).
أي: يـستـوفي مـدد آجـالهـم أو يسـتـوفي تـمام عـددهـم إلى يـوم القـيامة، ولـقـد تحـدث القـرآن الكـريـم عـن فـضـيلة الـوفاء بالعـهـد في عـدة مـواطـن، ولـعـل أشـرف مـكانة للـوفـاء بالعهـد هـي أن يصـف الله ذاتـه القــدسية بالـوفاء، حـيث قـال:(.. وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الـتـوبة ـ 111) أي: لا أحـد أوفى بعـهـده مـن الله، ولا أصـدق في انجـاز وعـد مـنه سـبحانه وتعـالى، فهـو القـادر الـمـتـمكـن مـن الـوفـاء.
والله سـبحانه وتعـالى يـوفي كل إنـسان حـقه، سـواء كان مسـتـقـيماً أم غــير مسـتقـيم، صالحاً كان أم طـالحاً، فـكل واحـد منهـم وما يستحـقـه ويـليـق بـه، قـال الله تعـالى:(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقـرة ـ 281)، ويـقـول الله تعـالى:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عـمـران ـ 185)، وقال أيـضاً:(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) (الـزمـر ـ 70)، وقال:(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الأحـقاف ـ 19).
ويحـدثـنا القـرآن الكـريـم عـن الـوفاء، وأن الـوفـاء صـفـة مـن صـفاة المـؤمنيـن المـتـقـين الأخـيار الأبـرار، قال تعـالى:(بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عـمـران ـ 76)، وقـال:(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعـد ـ 20)، وقال:(.. وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (الفـتح ـ 10).
والـوفاء بالعهـد في أمثال هـذه الآيات الكـريمـة، يشـمـل الـوفاء بمخـتـلف أنـواع العـهـود بين الناس، سـواء أكان عــهـدا مادياً أو معـنـوياً معـجـلاً أو مـؤجـلاً ويشـمـل كـذلك الـوفـاء بعـهـد الله تعـالى، ولـذلك جـاء في تـفـسير الـمـنار: العـهـد ما تـلـزم الـوفاء بـه لـغــيرك.
فإذا اتفـق اثـنان عـلى أن يقـوم كل منهـما للآخـر، بشيء مـقـابلة ومجـازاة يـقـال أنهـما تعـاهـداً، ويـقـال عـاهـدت فـلاناً عهـداً، فـيـدخـل فـيه الـعـقـود المـؤجـلة والأمانات المـودعـة، فـإن ائتـمـنـك رجـل عـلى شـيء أو أقـرضـك مـالاً إلى أجـل مسمى أو باعـك بثمـن مـؤجـل، وجـب عـلـيـك الـوفاء بالعـهـد له.
والقـرآن الكـريم يخـبرنا أن للـوفاء ألـواناً، فهـناك الـوفاء بالعـهـد، قال الله تعـالى: (.. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ..) (البقـرة ـ 177)، والـوفاء بالـوعـد، قال الله تعـالى:(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا) (مريـم ـ 54).
وهـناك الـوفاء بالنـذر، قال الله تعـالى:(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) (الـدهـر ـ 7)، وهـناك الـوفاء بالكـيـل، قال الله تعـالى:(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (الشـعـراء 181 ـ 182)، وهـناك الـوفـاء بالعــقـود، قال الله تعـالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ..) (المائـدة ـ 1).
والـوفـاء بعـهـد الله أعـلى وأجـدر بالعـنايـة والـرعاية والـوفـاء قال تعـالى:(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعـد ـ 20)، وقـوله تعـالى :(.. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعـام ـ 152)، وقـوله تعـالى:(وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (النحـل ـ 95).
ولكـن ما أسـرع الإنـسان إلى نسيان العـهـد، قال الله تعـالى:(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (يـس 60 ـ 61)، وقال تعـالى:(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طـه ـ 115).
وفـائـدة الـوفاء بالعهــد تعـود إلى الإنسان ذاته، والله يبيـن لنا ذلك في كـتـابه العـزيـز، حـيـث قـال الله تعـالى:(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (البـقـرة ـ 272).
وقال تعـالى:(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال ـ 60)، ومـن الـوفاء أن يتـغــير حـال الإنسان، فـيتـصـف بالـتـواضـع لأخـيه الإنسـان، وإن ارتـفـع شـأنه بشيء ، سـواء كان ذلك بسـبب مال اكـتسبه أو منصـب تـبـوأه.
قال الشاعـر:
إن الكـرام إذا ما أيسروا ذكـروا
من كان يألفهـم في المـنـزل الخـشـن

ومـن الـوفاء: المـحافـظـة عـلى الأسـرار في الحـياة الـزوجـية، وقـد أفـضى بعـضهـم إلى بعـض، وسـكـن بعـضهـم إلى بعـض عـلى وفـق سـنة الله بالمـودة والـرحـمة، قال الله تعـالى:(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء ـ 21).
ويـقـول الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم):(إن أحـق ما وفـيـتم به مـن الشـروط ما اسـللتـم به الفـروج)، وروي عـن عـبـد الله بن عـباس ـ رضي الله عـنهـما ـ أنه قال:(إن المـراد بالعـقـود العـهـود التي عـهـد الله إلى عـباده، وما أحـل وما حـرم وما فـرض وما حـد في القـرآن الكـريم كله لا تغــدروا ولا تنـكـثـوا).
وإن ما أصـاب الأمة الإسـلامية مـن البـلايا والمحـن، في الانحـطاط الخـلقي والتـشـتـت الأسـري (رغـم التقـدم العـلمي والحـضاري في جـمـيـع نـواحي الحـياة) كله بسبب عـدم الـوفاء بالعـهـود والمـواثـيـق، حـتى بـلـغ درجـة اليأس، في كـثير مـن المجـتـمـعـات البشرية، فانتـشـر انتهاك الحـرمات وتفـنن الـسارقـون في سـرقـة الأمـوال .. فـكـم من الشـركات أسـست في والـوهـم والخـيال مـن أجـل إغـراء الناس، وأخـذ أمـوالهـم بالباطـل، وكـم مـن الأمـوال العـامـة انـتهـبـت، لـعــدم وجـود الـوازع الـديني، فـتـعـددت طـرق التحـايـل لأخـذ أمـوال الناس بالباطـل ولنقـض الـعـهـود والمـواثـيـق وقـد حـذرنا الله مـغـبة ذلك حـيـث قال تعـالى:(.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال ـ 58)، وقال:(.. وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) (يوسف ـ 52)، وقال:(.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحـج ـ 38)، وقال:(.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (النسـاء ـ 107).