د. جمال عبد العزيز أحمد*
نشرع في هذه السلسلة المتواصلة الحلقات طوال الشهر الفضيل .. لنتعرف عن قرب على أساليب القرآن الكريم على اختلاف تنوعها وتعدد دلالاتها وتباين تراكيبها: ما بين مدح وذم وإغراء وتحذير ونفى وإثبات وخبر وإنشاء وتوكيد واستفهام واستثناء وشرط واختصاص وتفضيل واشتغال وتنازع وتعجب ونداء واستغاثة وندبة .. وغير ذلك من أساليب العربية التى نزل بها القرآنُ الكريمُ.
ونبدأ هنا بآيات الصيام ملتمسين منها البركة فى شهر رمضان المبارك،
نَحُومُ حول دلالاتِ تلك الأساليب، وجمال تركيبها، ومجيئها وفق سياقاتها القرآنية المتنوعة، يقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
تخلَّل هذه الآيةَ الكريمةَ عددٌ من الأساليب اللغوية، بدأها القرآن الكريم بأسلوب النداء، ومن المعروف أن أساليب النداء في القرآن الكريم تتعدد، فنرى نداء الناس بعامة، ونرى نداء الإنسان على حدة، ونداء أهل الإيمان مبسوطا في كتاب الله الكريم، فالناس ينادى عليهم بقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ، ويُنادَى على الإنسان فيقول:﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾، وينادي على النفس فيقول:﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾، وعندما يخاطب أهل الإيمان يناديهم بقوله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ..﴾ على اختلاف مضمون النداء في السور والآيات.
وهنا كذلك لمَّا كان الإيمانُ عقداً مباركاً بين المرء وربه، ناداه ربه - جل جلاله - بأحب الصفات إليه، وأكملها عنده:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ..﴾ أي: يا من عقدتم عقد الإيمان بيني وبينكم، أن تعبدوني، وتمجدوني، وتسبحوني، وتعظموني، وأنا أثيبكم على ذلكم الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار، وأن أرضى عنكم، وأن أجعل حياتكم كريمة تحيونها كراماً عليَّ ، فأتى "يا" النداء التي هي أمُّ أحرف النداء، وأسُّ بابِ النداء، وهو الحرف الذى يجوز أن يأتي للقريب والبعيد، فأحرف النداء منها ما يكون للقريب مثل: الهمزة، وأيّ، ومنها ما يكون للبعيد، مثل: أيا وهيا، ومنها ما يصلح للاثنين معًا، وهو الحرف "يا" فناسب في البعد بُعْدَ مكانة أهل الإيمان عند ربهم، وناسب فى القرب قُرْبَهُمْ من ربهم، وقُرْبَهُ منهم، وكل ذلك لتعظيم شأن ما بعده، كما أنه ربط المنادى بهاء التنبيه (يا أيها) حتى تزداد الكلمات ترابطاً وتناسقاً، وحسن استماع إلى هذا التنبيه، وكذلك جاء الاسم الموصول (الذين آمنوا) لبيان تعظيم شأن المخاطبين من المؤمنين، وجاءت صلة الموصول (آمنوا) فيها بلاغة الاختيار حيث اختار الفعل (آمنوا) لأن الإيمان بالله هو أعظم مراتب العلاقة بين العبد وربه التى تستلزم الإذعان والتسليم الكامل لكل تكليف، حيث لم ينادي أحداً من الناس والخلق والبشر، وإنما نادى المؤمنين منهم فقط، فأسلوب النداء يتكون من حرف النداء، والمنادى عليه، وجملة النداء، فاختار حرفاً يناسب القرب والبعد:(مكاناً، ومكانة) كما اختار صلة الموصول التي تتناغم مع مضمون الإيمان وتسليم بكل تكليف وتنفذه عن حب والتزام لا عن كره وإجبار، فمقتضى الإيمان هو منتهى التسليم وقمة الإيمان هى حسن الطاعة والعمل بإحسان ومراقبة الله عن حب وود واقتناع وصدق تنفيذ وجميل استماع.
ثم جاء مضمون النداء، أو جملة النداء:(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ..) هذا أسلوب فيه إيجاز بالحذف، حيث حُذف الفاعل وناب عنه المفعول، وهو أسلوب بناء لما لم يُسمَّ فاعله:(بناء للمجهول) بسبب العلم بالفاعل، وفيه إكبار لأهل الإيمان، حيث إنهم يوضح من خلاله أنهم يعلمون حقاً مَنْ له حق الفرض والإلزام، وهو الله تعالى، وهو أسلوب إيجاز بالحذف كذلك، والتعبير بالكتابة هنا دلالة على بيان تقرير الفرض، وأنه مكتوب علينا، قد فرغ منه، وانتهى أمره، وانقضى، فليس بعد ذلك إلا الالتزام والإذعان والاستجابة والتسليم، واستعمال حرف الجر (على) الذي يفيد الاستعلاء جاء لبيان أن أمر الله عالٍ وغالٍ، وهو فوقنا، ومحمول على التعظيم، ووضعه فوق الرؤوس ، فأمر الله فوق كل شيء، فالحرف (على) يفيد سمو وعلو وكمال وفوقية الأمر.
وهكذا كل فروض الإسلام من: صيام وزكاة، وحج وشهادتين، وكل ما بيَّنه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، والتعبير بالصيام - وهو اسم لهذه العبادة المفروضة لدى كل مؤمن مخاطب بها - يفيد التخصيص والتجديد على عكس التعبير بالمصدر (الصوم) الذى هو عام في كل صوم غير مخصوص بالشهر الفضيل، و"أل" في الصيام عهدية، أي: الصوم الشرعي المخصوص بالشهر الفضيل، والمعروف بضوابطه وأحكامه، وقوله تعالى:(كما كتب على الذين من قبلكم) فيه تشبيه وتعلي، أي فُرِضَ تمام كما فُرِضَ على كان من قبلكم، وفيه تعليلُ فرضية الحكم، وأن أحكام الإسلام علَّلها القرآنُ الكريم، وفيه تيسير وتسهيل كذلك على كل نفس مؤمنة تلتزم بالصيام: فرضاً وآداباً وأحكاماً وسنناً، وخصائص وأخلاقاً، فنحن مسبوقون بالصيام، وليس الصيام علينا بِدْعًا، وإنما صام كذلك مَنْ كان قبلنا، وهذا فيه تخفيف وتيسير على من يسمعه، وهو به مخاطب، كما أن فيه قاعدة أنَّ شرع من قبلنا هو شرع لنا إذا أقره شرعُنا، وعندئذ يجب المصير لله، والالتزام به، والانقياد له، وقد استنبط العلماء من الآية الكريمة مشروعية القياس، وضرورة الاحتكام إليه والعمل به.
ثم يأتي تزييل الآية :(لعلكم تتقون) وهو أسلوب تعليل، يبين سبب فرضية هذه الشعيرة على أهل الإسلام، ويكمن ذلك الهدف، وهذا المقصد الشرعي في تحصيل التقوى التي هي من أعظم ثمرات الصيام، وهي فائدة كلِّ فرض افترضه الله تعالى من صيام وزكاة وحج .. ونحوه وتجد الأسلوب يضع أهل الإيمان في ضمير واحد:(آمنوا - عليكم - من قبلكم - لعلكم - تتقون) ذلك لأن المسلمين جسد واحد، يلتزمون معاً: صوماً، وإفطاراً، ويبدؤون معًا في الصلوات: افتتاحاً بالتكبير، واختتاماً بالتسليم، وهم كذلك يحجون معًا: بدءاً بالطواف، وانتهاء به، فهم قلب واحد، وجسد واحد، وفكر واحد، ولهم قبلة واحدة، ولهم رب واحد، ودين واحد يجتمعون عليه، وهدف واحد، وغاية واحدة ، فالتقوى هي خلاصة وثمار ومقاصد كلِّ أعمال أهل الإسلام.
نسأل الله تعالى أن يتقبل صيامنا، ويضاعف أجورنا، ويرفع عنده أقدارنا، ويغفر لنا ذنوبنا، ويكفر عنا سيئاتنا، وأن يجعله شهر رحمة ومغفرة، وقبول وعتق من النيران ودخول لأعالي الجنان، والحمد لله رب العالمين، وكل عام وأنتم بخير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جامعة القاهرة - كلية دار العلوم ـ جمهورية مصر العربية
[email protected]