علي بن سالم الرواحي
نستكمل معك ـ عزيزي القارئ ـ بقية هذه السلسلة من حلقات (أسباب النزول) خلال هذا الشهر الفضيل ..
الرواية الثانية: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، أَوْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ) قَالَ: فَدَخَلَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَلامَ سَبَبْتَنِي ـ أَوْ شَتَمْتَنِي أَوْ نَحْوَ هَذَا ـ؟ قَالَ: وَجَعَلَ يَحْلِفُ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُجَادَلَةِ:(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (المجادلة ـ 14) وَالْآيَةُ الْأُخْرَى، وهنا النازلان في الحادثة الواحدة آيتان.
مثال (2): الرواية الأولى: عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَغْزُو الرِّجَالُ وَلاَ تَغْزُو النِّسَاءُ وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) قَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَنْزَلَ فِيهَا ِ(إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ ..) وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَوَّلَ ظَعِينَةٍ قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرَةً.
هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مُرْسَلاً، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَذَا وَكَذَا.
الرواية الثانية: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ لاَ أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الهِجْرَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:(أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
وهنا النوازل جاءت جواباً لسؤال واحد وهي ثلاثة آيات أو أكثر والله أعلم.
* أقسام سبب النزول مع لفظ النازل, من حيث العموم والخصوص:
يُفرِد الأصوليون مبحثاً خاصاُ في الاعتبار هل هو بعموم اللفظ أم بخصوص السبب لأنهم يبحثون في حجية و دلالة ألفاظ القرآن على الأحكام الشرعية بينما يهتم المفسرون به لأن السبب يعينهم على فهم معنى الآية المراد بازالة الاشكال عنها ولأنه يقدم صورة حية لتطبيق الحكم.
وبصورة عامة فالعلاقة بين السؤال الذي هو السبب وبين النازل وهو لفظ الآية هو كما يلي:
1 ـ الجواب غير مستقل عن السؤال: أي لا يفيد بنفسه إلا لُوحظ السؤال, وحكمه أنه يتبع السؤال فيساويه في العموم باتفاق الاصوليين ويساويه في الخصوص في المشهور والسائد عندهم.
مثال ـ 1: هل يجوز الوضوء من ماء البحر؟ والجواب: نعم, (الجواب عام)، انظر: كلمة (نعم) لا تفيد شيئاً إلا بالرجوع إلى السؤال.
مثال ـ 2: توضأتُ بماء البحر فهل يجوز؟ والجواب: يجزئك, (الجواب خاص), انظر: كلمة (يجزئك) لا تفيد شيئاً إلا بالرجوع إلى السؤال.
2 ـ الجواب المستقل: وهو الذي يفيد افادة تامة دون الحاجة للرجوع إلى السؤال, وهو الغالب في القرآن الكريم وهو قسمان حسب حكمه هما:
ـ تكافؤ اللفظ للسبب (سؤاله) في العموم والخصوص وهو قسمان سنذكرهما لاحقاً بالتفصيل وهاك مثالهما: فمثال النازل العام على سبب عام: آيات غزوة بدر، ومثال النازل الخاص على سبب خاص: قوله تعالى:(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)(الليل 17 ـ 18), وقصة أبي بكر وسيأتي بيانها لاحقاً.
ـ عدم تكافؤ اللفظ مع السبب وهو أن يكون أحد السبب واللفظ عاماً في حين يكون الآخر خاصاً فهو إذاً قسمان سنذكرهما لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وبصورة عامة وباستقراء اللفظ والسبب من ناحية الخصوص والعموم يتكون لدينا أربع صور منطقية كالتالي:
سبب عام ولفظ عام (متكافئين): وحكمها باتفاق العلماء أن اللفظ العام بحكمه يتناول كل أفراد السبب العام لتطابقهما في العموم , ومثال ذلك: عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام ـ 152) وَ(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) (النساء ـ 10)، الْآيَةَ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة ـ 220)، فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِ.
فلفظ (مَن) ـ في السبب ـ اسم موصول عام, واللفظ (وإن تخالطوهم فإخوانكم) كذلك عام.
2 ـ سبب خاص ولفظ خاص (متكافئين): وحكم هذه الصورة انطباق اللفظ على السبب في الخصوص وذلك باتفاق العلماء.
مثال: سبب نزول صورة المسد هو حين جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقاربه أو قريشاً وحذرهم من عقاب الله وذكر أن المخلص منه هو الاسلام فقال أبي لهب:(تباً لك سائر اليوم).
فنرى أن الحكم الوارد في تلك الصورة أو بمعنى الآخر اللفظ وهو العذاب الأخروي الأبدي يتناول فقط أبا لهب وامرأته.
3 ـ سبب عام ولفظ خاص (غير متكافئين): وهذا غير حاصل في القرآن الحكيم باجماع العلماء والأمة لأنه يتنافى وبلاغة الغرب فما بالك ببلاغة القرآن الذي هو كلام الله العليم الخبير القدير, فإن من مقتضيات البلاغة أن توافق الحال والغرض وهنا نرى أن الجواب أو اللفظ لم يفٍ بغرض السؤال أو السبب.
4 ـ سبب خاص ولفظ عام (غير متكافئين): وهنا محل اختلاف العلماء, ولقد اختلفوا في سبب النزول والنازل من جهة هل الأصل سبب ‏النزول أم عموم النازل, لكنهم اتفقوا في تعميم اللفظ على ما دخل فيه أي ‏أن الاختلاف في كيفية ذلك التعميم لا في التعميم نفسه فالجمهور على أن ‏ذلك التعميم حاصل بالنص بينما المخالفون فيرون إنه حاصل بالقياس أو ‏بالخبر الآحادي وهو قوله (صلى الله عليه وسلم):(حكمي على الواحد ‏حكمي على الجماعة)‏.‏