[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” تم تداول مصطلح الشورى عند العرب منذ القدم وهو يعني بالمختصر المفيد أخذ الرأي على أمر من الأمور الجمعية التي تهم شئون المجتمع أو القبيلة أو فئة من الناس, أو الأمور الفردية التي تخص قضايا الفرد وتهتم بقراراته ومواضيعه الخاصة, ومن ثم تداول تلك الآراء ومناقشتها والأخذ بالمهم والمفيد منها,”

الرابع عشر: خلاصات ونتائج
نصل في نهاية المطاف إلى استعراض الخلاصات والنتائج التي تكونت من تلكم المقالات التي نشرت خلال العشرة الأسابيع الماضية, تحقيقا للفائدة وغايات الكتابة عن هذه المسيرة, واستخلاصا لدروس تلك المرحلة الهامة وتأطيرا وتلخيصا لما ورد فيها من محاور ومضامين:
1ـ تم تداول مصطلح الشورى عند العرب منذ القدم وهو يعني بالمختصر المفيد أخذ الرأي على أمر من الأمور الجمعية التي تهم شئون المجتمع أو القبيلة أو فئة من الناس, أو الأمور الفردية التي تخص قضايا الفرد وتهتم بقراراته ومواضيعه الخاصة, ومن ثم تداول تلك الآراء ومناقشتها والأخذ بالمهم والمفيد منها, أي الرأي الأقرب إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد والمحقق للأهداف المطلوبة والنتائج المرجوة, وحظيت الشورى بمساحة واسعة في التراث العربي وأدبياته الواسعة, وكان شيخ القبيلة وأمير المنطقة والزعيم في مجتمعه لا يتخذون قرارا تنسحب نتائجه على الجماعة إلا بأخذ المشورة عليه وتداول الرأي حوله من قبل علية القوم وحكمائهم وأهل الرأي والخبرة فيهم فتصبح الجماعة لا الفرد من يتحمل تبعات ونتائج تلك القرارات, و(( الشورى )) في اللغة اسم بمعنى التشاور أو الاسم من أشار عليه, وقولهم (( ترك عمر الخلافة شورى)), أي متشاورا فيها, ومجلس الشورى هو المجلس المؤلف لاستماع الدعاوى عرفيا أو للتداول في شئون البلاد, والمشورة هي النصيحة. وتستمد الممارسة قوتها من الأمر الإلهي الوارد في الآية القرآنية رقم 159 من سورة آل عمران (( فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر )): أي الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر وبما يجلب المصالح الدينية والدنيوية.
2ـ في عمان عرفت السبلة مكانا للتشاور في مختلف المسائل والقضايا والأمور التي تهم الإنسان وكيان الوطن والمجتمع المحلي في القرية والمنطقة والتجمع السكني والقبيلة والأسرة, ففي مقر الحكم وبيت الشيخ والوجيه ظلت السبلة لقرون طويلة مكانا لاستقبال الضيوف والتشاور والتداول والتحاور في قضاء حاجات الناس ومعالجة مشاكلهم والتعرف على آخر المستجدات والأخبار وتقليبها والاستفادة منها في اتخاذ القرار, فأصبحت السبلة رمزا ومكانا للشورى.
3ـ انطلاقا من تلك الخلفيات فقد استمد العديد من البلدان العربية أنظمتها البرلمانية ومنها السلطنة بالطبع من مبادئ الشورى مع الاستفادة من تطورات العصر وتجارب الدول والشعوب الأخرى في مجال العمل البرلماني الذي يحتاج إلى المزيد من العمل التطويري والسعي للارتقاء بأدائه وإلى اختصاصات واسعة تخرجه من إطاره الاستشاري الضيق ومن أدوات عمله ومساراته المعطلة في معظم الدول العربية إلى مجاله التشريعي والرقابي الواسع المحقق للأهداف الطموحة والآمال الكبيرة المعقودة في المشاركة والمساهمة وضمان حشد كافة القوى الفاعلة في المجتمع وبما يعزز مسيرة الإصلاح والتطوير ويكبح طرق الفساد ويحجم استشراءه ويعلي من شأن ومكانة المجتمع. وفي عمان أخذت مسيرة الشورى طريقها بثبات وقوة إلى فضاء التقدم والتطور, في الصلاحيات والممارسة والعملية الانتخابية والأداء والنتائج الملموسة بفضل الدعم الذي تلقاه من لدن قائد البلاد المفدى, وهو ما تعرضت له وفندته المقالات التي نشرت خلال الأسابيع الفائتة, ومن المنتظر ان تشهد مؤسسة الشورى وممارساتها فصلا جديدا يعزز صلاحياتها ويأخذها في نقلة مهمة إلى برلمان يتمتع بكامل الصلاحيات التشريعية والرقابية وهو ما يتطلع إليه المجتمع العماني.
4ـ إن مبنى مجلس الشورى بمنطقة مرتفعات المطار, تأسست في قاعاته وأقسامه ممارسات العمل الشوروي, وشهد ذلك الزخم من الانجازات المتواصلة والكبيرة التي تحدثنا عنها بشيء من الإيجاز في المقالات السابقة, وتطورت مع المسيرة صلاحيات المجلس والعملية الانتخابية وارتفع عدد أعضائه وتعددت الوسائل والأدوات البرلمانية, وهو يوثق لفترة التأسيس والنمو والتطور, وفي مبنى مجلس عمان الذي يجمع السلطة التشريعية بغرفتيها الدولة والشورى وبما يوفره من امكانات كبيرة ووسائل ونظم حديثة سوف تكتمل فيه المسيرة وستصل تلك الممارسة التي تواصلت خلال العقود الماضية إلى مرحلة العمل التشريعي والرقابي الكاملين, وستشهد قاعات المبنى الجديد ممارسات وأعرافا برلمانية تؤرخ لفترة أخرى مهمة, وهما معا يقدمان للأجيال القادمة مسيرة العمل البرلماني بمراحله ومحطاته وتطوراته الفاصلة.
5ـ إن مؤسسة الشورى أنشئت وتطورت واشتد عودها ورسمت لنفسها مكانة بين مؤسسات الدولة الثلاث, وكان المبدأ الذي قامت عليه كما جاء في النطق السامي لتبقى وتتطور, ومن يعمل أو يسعى لإيقاف هذا النمو والتطور أو إضعاف العمل البرلماني فلن يجني من جراء ذلك العمل إلا الخسارة ولن يتمكن من تحقيق أي نجاح في مسعاه لأنه يتجاهل بعمله ظروف المرحلة وتحدياتها ولأنه أراد أن يقف عقبة أمام تطلعات المواطن وطموحه, ولأن قراءاته كانت قاصرة وعاجزة عن رؤية تلك المسيرة وذلك التأسيس وتلك الممارسة والانتاج الغزير من العمل الذي تواصل على مدى أكثر من ثلاثة عقود ويستحيل إيقافه أو تأخيره أو إضعافه, وما تلك العقبات والظروف والاشكالات والتحديات التي واجهت مسيرة الشورى أحيانا وفي فترات بعينها إلا منشطات ومحفزات ودوافع وخبرات تدفع بالمسيرة إلى المزيد من التطور وإلى معالجة اشكالاتها ومراجعة تقييم أدائها والخروج من تلكم الظروف والعقبات إلى مجال أرحب وأوسع يأخذ فيه الأداء صورا جديدة وممارسات أكثر تطورا وعمقا تتعزز معها مكانة المجلس واسهاماته في العمل الوطني.
6ـ إن مسيرة الشورى وعبر أكثر من ثلاثة عقود من الممارسة العملية والتأطير المؤسسي ومن التطور في الصلاحيات وفي عملية الانتخاب وعدد الأعضاء وغير ذلك من الوسائل والأدوات والعرف الشوروي، قدمت أعمالاً وإنجازات قيمة في مختلف المجالات والحقول التي تهم المجتمع وتحقق مصالح الوطن, وما تتعرض له أحيانا من نقد وعدم رضا, له أسبابه الخارجة عن الإرادة, والتي ترتبط بالأطراف الرئيسية الفاعلة في العمل الشوروي والاشكالات التي تفرضها أطراف العلاقة, وانطلاقا مما تمت الإشارة إليه في المقالات السابقة فليس من المبالغة أن نطلق على إرشيف مؤسسة الشورى بما يحمله من وثائق ودراسات وأعمال ب (( ذاكرة العمل الوطني)), وبأنه أي المجلس ((بيت العمانيين )) وقاعته الرئيسية (( جامعة حقيقية)) تلتقي في رحابها الكفاءات الوطنية بمختلف تخصصاتها ودرجاتها العلمية ومستوياتها الثقافية وحصيلة الخبرات التي تحملها.
7ـ إن الأعمال والانجازات الكبيرة التي تواصلت طوال الأعوام الماضية تحققت بفضل جهود وامكانات عدد من الأوفياء والمخلصين من رؤساء المجلس وأعضائه وموظفي الأمانة العامة الذين عملوا في الليل والنهار واجتهدوا للحصول على المعلومة من مصادرها وعلى استطلاع الحقائق من موقعها مباشرة, وأسسوا لقيم الحوار وتقبل واستيعاب النقد البناء باعتبارها واحدة من أهم الوسائل والعناصر لتقييم الأداء وتطويره وتجويد وتحسين الدراسات والتوصيات التي اتسمت بالعمق والاحترافية والدقة والموضوعية, والتعرف على معاناة ومشاكل المجتمع ورصد توجهات أفراده , واحترام الرأي الآخر والتحاور مع مختلف شرائح المجتمع, فقدموا دراساتهم وملاحظاتهم ومرئياتهم ونقلوا عبر الوسائل التي نصت عليها مواد النظام الأساسي ولوائح المجلس العديد من الموضوعات والقضايا التي ساهمت في نجاح العمل الوطني, وفي التقدم بشكل عام وفي تحديد الأولويات وتطوير المشاريع والخدمات والقطاعات المختلفة وضمان سرعة إنجازها, على أسس أخذت في الاعتبار مبدأ التوازن بين المتطلبات والامكانات واستشراف المستقبل واستخدام المعلومة وتوظيفها لخدمة تلك الدراسات والتوصيات.
8 ـ إن طبيعة العمل الشوروي بما قدمت له سلسلة المقالات المتنوعة في هذه الصفحة من جريدة الوطن أكدت على جملة من الحقائق المشرفة التي تميزت بها الشخصية العمانية والتي نظرت إلى أي عمل أو خلاف بين شركائه أو علاقة أو إنجاز وقرار من منطلق ارتباطها بأهداف وغايات عليا تعزز من قيم المواطنة واستثمار صلاحيات المجلس وممارساته وأعماله في خدمة مصالح الوطن والدفاع عن حقوقه وتعظيم المنافع واستثمار الثروات التي من شأنها تحقيق سعادة وازدهار حياة المواطن ومعالجة وتناول قضاياه الأساسية التي تضمن الوصول إلى درجات مقبولة من الرضا, وبما يعزز كذلك من روح الانسجام بين مختلف مكونات المجتمع بغض النظر عن الإنتماء القبلي أو المذهبي أو المناطقي, ويكفل حرية التعبير داخل المجلس، ويعبر عن الإحترام المتبادل بين الأعضاء, فبرغم أن المناقشات والحوارات العميقة تصل إلى قضايا حساسة ومواضيع دقيقة للغاية, وفي أجواء مشحونة في بعض الأوقات, وفي حيز ضيق, وأطراف هذا النقاش يتجاوزون الثمانين عضوا ينتمون إلى مناطق وقبائل وبيئات وخلفيات ثقافية وعلمية وعمرية متعددة, وتتسع أطرافه في جلسات محددة بوجود وزراء ووكلاء وومسئولين .. إلا أن تلك المناقشات الحامية والخلافات الواسعة في الرأي لم تصل بالمجلس إلى منزلق خطر أو حدوث أزمات وتوترات تعكر صفو المناقشات أو تعطل عمل المجلس أو تؤدي إلى تطاول عضو أو مجموعة من الأعضاء على أخرى وهو ما ساهم في تحقيق ذلك الانسجام الذي ينبغي أن يحتذى به وأن يصبح مثلا ومنهجا يدرس في صفوف التعليم. فقد يصل الخلاف بين عضوين أو مجموعتين حول الموضوع أو القضية المطروحة أو التوصية المعروضة للتصويت من الحدة درجة أن المتابع يصل إلى قناعة أنهما أي العضوين لن يكلم أحدهما الآخر بعد ذلك الخلاف الحاد, فما أن ترفع الجلسة وينتهي النقاش ويتخذ القرار وبغض النظر عن مساره وبأي الرأي أخذ , حتى يراهما معا يد هذا في يد ذاك يتبادلان النكت والابتسام فيما بينهما.
9ـ إن ذلك التنوع الثقافي وذلك التعدد في الأخذ بأساليب وطرق التعامل مع الحياة وأطرافها وعناصرها المتعددة والتي تشكل في مجملها منهج حياة متكامل, والالمام باحتياجات المواطن ومصالح الوطن والخبرة العميقة التي تفصح عنها تلك الأطروحات والمناقشات والحوارات مع أطياف المجتمع بمشاربه وتوجهاته وتفاوت ثقافته وتباين درجاته العلمية, والتي وثقته التسجيلات الصوتية والفيديو والتقارير والأعمال الكتابية, والمشاهدات اليومية التي كنا طرفا من أطرافها, والقدرة على استشراف المستقبل وعلى اتخاذ القرارات, وتمكن الأعضاء من التحاور مع كبار المسئولين والنافذين بما يمتلكونه من أسلحة قوامها البيان اللغوي والمعلومة وقوة النفوذ, درجة اقناعهم والتفوق عليهم أحيانا بما لديهم من معلومات وقرائن وإعداد جيد لتلك المناقشات والجلسات المتواصلة والذي ما كان ليتحقق لولا الشعور بالمسئولية ولولا قوة التعليم ومخرجاته مدارس نظامية كانت أم تقليدية, والمساحة المخصصة للقراءة وتقدير للكتاب ومسامرته واهتمام بالتربية والاضطلاع بمسئوليات اجتماعية متعددة وارتباط بسير الآباء ومجالستهم في السبلة العمانية والاستفادة من خبراتهم, وهو ما أدى إلى هذا التنوع الثقافي والخبرات المتعددة الجوانب وإلى الرزانة والتمسك بالقيم. وهي سمات بتنا نفتقدها وملامح ثقافة تتراجع بشكل كبير عند الأجيال الصاعدة للأسف الشديد.
10ـ إن جلسات مجلس الشورى العلنية منها والسرية والتي تم توثيقها صوتا وتحريرا في مضابط خاصة, وصورة لبعضها تمثل تنوعا خطابيا غنيا باللهجات والأصوات والجمل والعبارات الغارقة بعضها في المحلية العمانية والخصوصية المناطقية, والتي تؤكد على ثراء اللهجات العمانية وتقدم الكثير من المصطلحات والكلمات التي لم تعد تستخدم في الدارجة العربية وباتت غير معروفة لدى كثير من العامة, لكنها في حقيقة الأمر هي عربية فصحى ما زالت تستخدم في بعض المناطق العربية وضمنتها القواميس العربية في صفحاتها وأبوابها وفقا لموقعها وتصنيفها اللغوي, ذلك أن أعضاء المجلس وخاصة في بدايات الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات الكثير منهم شيوخ قبائل ووجهاء في مناطقهم ومنهم كبار في السن ويمثلون مستويات تعليمية وثقافية متعددة, ومن خلفيات اجتماعية وأعمار مختلفة, من المدن والصحارى والقرى والجبال وسكان الشواطئ ما زالوا يحتفظون باللهجات والمصطلحات المتوارثة والقيم والثقافة العمانية الأصيلة .. هذا جانب ومن جانب آخر فقد تضمنت تلك المناقشات والمداخلات والحوارات في صورها ومجالاتها وتعدد أغراضها أسماء لقرى وتجمعات سكنية ومناطق ومواقع عمانية وجبال وأودية ... قد لحق بعضها التغيير ولم تعد أسماؤها القديمة معروفة لدى الكثيرين, فضلا عن الكم الهائل من الموضوعات والقضايا والمعلومات والصور والمواقف والمحطات التي تعرضت لها تلك المناقشات في جلسات المجلس, ما يضعها في مكانة خاصة وجزءا مهما من ذاكرة الوطن التي ينبغي كما أشرنا الحفاظ عليها من الضياع والاندثار.